من الفكرة إلى التطبيق.. رحلة لقاحات "الرنا مرسال" التي كرمتها نوبل
بينما كان الجميع يتوقع تكريم تقنية لقاحات "الرنا مرسال" التي أحدثت نقلة نوعية في مكافحة "كوفيد 19"، العام الماضي، تأجل التكريم إلى هذا العام، عبر عالمين أسهمت أبحاثهما في تطوير هذه اللقاحات التي أنتجتها شركتا "موديرنا" و"فايزر".
وتم منح الجائزة، اليوم الإثنين، إلى كاتالين كاريكو الأستاذ بجامعة ساجان في المجر، وأستاذ مساعد بجامعة بنسلفانيا، ودرو فايسمان، الذي أجرى أبحاثه مع كاريكو في جامعة بنسلفانيا.
وقالت اللجنة التي منحتهما الجائزة، إنه "من خلال نتائجهما الرائدة، التي غيرت بشكل أساسي فهمنا لكيفية تفاعل (الرنا مرسال) مع نظام المناعة لدينا، ساهم الفائزان في إنتاج لقاحات بمعدل غير مسبوق خلال أحد أكبر التهديدات لصحة الإنسان في العصر الحديث، وهي جائحة (كوفيد 19)".
وحتى نصل لهذا الإنجاز المهم، هناك رحلة طويلة قطعتها اللقاحات، بداية من اللقاحات القائمة على الفيروسات الميتة أو المضعفة، ومرورا بلقاحات تُستخدم أجزاء من الشفرة الوراثية الفيروسية، والتي عادةً ما تشفر البروتينات الموجودة على سطح الفيروس، وانتهاء بلقاحات "الرنا مرسال"، وهي الأسهل في الإنتاج.
اللقاحات قبل الوباء
وحتى نفهم الاختلافات نبدأ بتعريف مهمة اللقاحات فهي تحفز تكوين استجابة مناعية لمسببات مرضية معينة، وهذا يمنح الجسم السبق في مكافحة المرض في حال التعرض له لاحقا.
وكانت اللقاحات القائمة على الفيروسات الميتة أو المضعفة متاحة منذ فترة طويلة، وتمثلت في اللقاحات ضد شلل الأطفال والحصبة والحمى الصفراء، وفي عام 1951 حصل ماكس ثيلر على جائزة نوبل في الفسيولوجيا أو الطب لتطوير لقاح الحمى الصفراء.
وبفضل التقدم في البيولوجيا الجزيئية في العقود الأخيرة تم تطوير لقاحات تعتمد على مكونات فيروسية فردية، وليس فيروسات كاملة.
وتُستخدم هذه اللقاحات أجزاء من الشفرة الوراثية الفيروسية، والتي عادةً ما تشفر البروتينات الموجودة على سطح الفيروس، في صنع البروتينات التي تحفز تكوين الأجسام المضادة التي تحجب الفيروس، ومن الأمثلة على ذلك اللقاحات ضد فيروس التهاب الكبد B وفيروس الورم الحليمي البشري.
ثم حدث تطوير لهذه الطريقة فظهرت لقاحات "الناقلات الفيروسية"، حيث يتم نقل أجزاء من الشفرة الوراثية الفيروسية إلى فيروس خامل غير ضار "ناقل"، وتستخدم هذه الطريقة في اللقاحات ضد فيروس الإيبولا، وعندما يتم حقن لقاحات ناقلات الأمراض يتم إنتاج البروتين الفيروسي المحدد في خلايا الجسم، مما يحفز الاستجابة المناعية ضد الفيروس المستهدف.
ويتطلب إنتاج لقاحات كاملة تعتمد على الفيروسات والبروتينات والنواقل زراعة الخلايا على نطاق واسع، وتحد هذه العملية كثيفة الاستخدام للموارد من إمكانيات الإنتاج السريع للقاحات استجابة لتفشي الأوبئة.
وحاول الباحثون منذ فترة طويلة تطوير تقنيات لقاحات مستقلة عن زراعة الخلايا، لكن ثبت أن ذلك يمثل تحديا.
فكرة واعدة
وفي خلايا الجسم يتم نقل المعلومات الوراثية المشفرة في الحمض النووي إلى الحمض النووي الريبوزي المرسال (الرنا مرسال mRNA)، والذي يستخدم كقالب لإنتاج البروتين.
وخلال الثمانينيات تم تقديم طرق فعالة لإنتاج الرنا مرسال دون زراعة الخلايا، والتي تسمى النسخ المختبري، وأدت هذه الخطوة الحاسمة إلى تسريع تطوير تطبيقات البيولوجيا الجزيئية في العديد من المجالات، وانطلقت أيضا أفكار استخدام تقنيات الرنا مرسال لأغراض اللقاحات والعلاج، ولكن كانت لا تزال هناك حواجز في الطريق.
كان الرنا المرسال المنسوخ في المختبر غير مستقر ويشكل تحديا في توصيله، مما يتطلب تطوير أنظمة دهنية حاملة متطورة لتغليف الرنا المرسال، علاوة على ذلك أدى الرنا مرسال المنتج في المختبر إلى حدوث تفاعلات التهابية، لذلك كان الحماس لتطوير تقنية الرنال مرسال للأغراض السريرية محدودا في البداية.
ولم تثبط هذه العقبات عزيمة عالمة الكيمياء الحيوية المجرية كاتالين كاريكو، التي كرست جهودها لتطوير طرق لاستخدام الحمض النووي الريبوزي المرسال في العلاج.
وخلال أوائل التسعينيات عندما كانت أستاذة مساعدة في جامعة بنسلفانيا، ظلت وفية لرؤيتها المتمثلة في تحقيق (الرنا مرسال) كوسيلة علاجية، على الرغم من مواجهة الصعوبات في إقناع ممولي الأبحاث بأهمية مشروعها.
وكان زميل كاريكو الجديد في جامعتها هو عالم المناعة درو وايزمان، وكان مهتما بالخلايا الجذعية، التي لها وظائف مهمة في المراقبة المناعية وتنشيط الاستجابات المناعية الناجمة عن اللقاح، وسرعان ما بدأ تعاون مثمر بينهما، مدفوعًا بأفكار جديدة، مع التركيز على كيفية تفاعل أنواع مختلفة من الحمض النووي الريبوزي (RNA) مع الجهاز المناعي.
اختراق مهم
لاحظت كاريكو وزميلها وايزمان أن الخلايا الجذعية تتعرف على الرنال مرسال في المختبر كمواد أجنبية، ما يؤدي إلى تنشيطها وإطلاق جزيئات الإشارة الالتهابية، فطرحا سؤالا ماذا تم التعرف على الرنا المرسال في المختبر على أنه أجنبي، بينما لا يحدث ذلك في خلايا الثدييات، فأدركا أن بعض الخصائص الحرجة يجب أن تميز الأنواع المختلفة من الرنا مرسال.
ويحتوي (الرنا) على 4 قواعد نيوكليوتيد، هي A وU وG وC، المقابلة لـA وT وG وC في حروف الكود الوراثي، وعرف العالمان أن القواعد في الحمض النووي الريبي من خلايا الثدييات في كثير من الأحيان يتم تعديلها كيميائيا، في حين أنها في المختبر لم تكن كذلك، وطرحا سؤالا عما إذا كان عدم وجود قواعد متغيرة في الحمض النووي الريبي في المختبر يمكن أن يفسر التفاعل الالتهابي غير المرغوب فيه.
للتحقيق في ذلك أنتجا متغيرات مختلفة من (الرنا مرسال)، ولكل منها تغييرات كيميائية فريدة من نوعها في قواعدها، والتي سلماها إلى خلايا شجيرية (نوع من الخلايا المناعية)، وكانت النتائج لافتة للنظر، حيث تم إلغاء الاستجابة الالتهابية تقريبا عندما أدرجت تعديلات القاعدة في الرنا المرسال.
وكان هذا تغيير نموذجي في الفهم لكيفية التعرف على الخلايا والاستجابة لأشكال مختلفة من الرنا مرسال، وأدرك العالمان على الفور أن اكتشافهما كان له أهمية عميقة لاستخدام الرنا مرسال كعلاج، ونُشرت هذه النتائج في عام 2005، قبل خمسة عشر عاما من جائحة (كوفيد 19).
وفي مزيد من الدراسات المنشورة في عامي 2008 و2010 أظهر كاريكو وويسمان أن تسليم الرنا المرسال الناتج مع تعديلات القاعدة أدى لزيادة بشكل ملحوظ في إنتاج البروتين مقارنة مع مرنا غير المعدل، وكان التأثير بسبب انخفاض التنشيط للإنزيم الذي ينظم إنتاج البروتين، ومن خلال اكتشافاتهما أن التعديلات الأساسية قللت من الاستجابات الالتهابية وزيادة إنتاج البروتين، قام العالمان بإزالة العقبات الحرجة في طريق التطبيقات السريرية لهذه التقنية.
إنتاج لقاحين بتقنية الرنا مرسال
بدأ الاهتمام بتكنولوجيا الرنا مرسال في الظهور، وفي عام 2010 كانت العديد من الشركات تعمل على تطوير هذه الطريقة، وبالفعل تم تطوير لقاحات ضد فيروس زيكا و(ميرس) باستخدام التقنية.
وينتمي (ميرس) لنفس عائلة فيروس كورونا المستجد، المسبب لجائحة (كوفيد 19)، لذلك تم تطوير لقاحين سريعا بعد تغيير قاعدة ترميز بروتين السطح، حيث تكون متعلقة بالفيروس الجديد، وتم ذلك بسرعة قياسية، وتم الإبلاغ عن آثار وقائية تبلغ حوالي 95٪، وتمت الموافقة على كلا اللقاحين في أوائل ديسمبر/كانون الثاني 2020.
وتمهد المرونة والسرعة المثيرة للإعجاب التي يمكن من خلالها تطوير لقاحات الرنا المرسال الطريق لاستخدام النظام الأساسي الجديد أيضا للقاحات ضد الأمراض المعدية الأخرى، وفي المستقبل يمكن أيضا استخدام التكنولوجيا لتقديم البروتينات العلاجية وعلاج بعض أنواع السرطان.
aXA6IDE4LjExNi4yMy41OSA= جزيرة ام اند امز