تحظى محافظة إدلب بأهمية استراتيجية، فهي تحاذي تركيا، التي باتت حاضرة بالأزمة السورية.
وتقع مدينة إدلب، مركز المحافظة، على مقربة من طريق حلب-دمشق الدولي، الذي شكَّل لسنواتٍ هدفًا للجيش السوري، إلى أن تمكّن من استعادته كاملاً.
وسيطر على "إدلب" ائتلاف فصائل مسلحة، بينها "جبهة النصرة" قبل فكّ ارتباطها بتنظيم "القاعدة" الإرهابي، ثم دخلت المحافظة في تحوُّلٍ آخر تحت اسم "جبهة فتح الشام" لإثبات المحلية والاعتدال، وعندها أعلنت عن تنظيمها باسم "هيئة تحرير الشام" في يناير/كانون الثاني 2017م ضمن مسعى قائدها، "الجولاني"، ليكون "زعيم إدلب المعترف به"، ومن ثَمَّ تراجعت "تحرير الشام" عن بعض مواقفها ومشاريعها بقبولها وتنفيذها لبنود اتفاقَي "آستانة" و"سوتشي"، وذلك بحثًا عن قبول دولي لها.
وتمكنت قوات الجيش السوري من التقدم جنوب المحافظة تدريجيًّا بعد عمليات عسكرية كان آخرها في نهاية ديسمبر/كانون الأول 2019م، وتقلصت بالتالي مناطق سيطرة "تحرير الشام" إلى أقل من نصف مساحة إدلب.
واليوم تسيطر "تحرير الشام" على ثلاثة آلاف كيلومتر مربع، مقارنة بتسعة آلاف كيلومتر مربع كانت بحوزتها عام 2017م، وتجني عائدات من حركة البضائع عبر المعابر مع مناطق سيطرة الحكومة السورية وتركيا، ويبلغ عدد مقاتليها نحو عشرة آلاف، كما تحتكر توزيع الوقود والمشتقات النفطية، وتبلغ قيمة أرباحها نحو مليون دولار شهريًّا، وتنتشر في المنطقة أيضًا فصائل مسلحة متحالفة مع "الهيئة"، أو على خلاف معها، وأخرى أقل نفوذًا تدعمها أنقرة.
ويقاتل في "إدلب" أشخاص يحملون جنسياتٍ عدة، فيما تنشر تركيا الآلاف من قواتها فيها، وخلال وقف إطلاق النار، الذي ظنَّ كثيرون أنه سيسقط كما الاتفاقات التي سبقته، نشرت تركيا في إدلب نحو 15 ألف جندي، ولا يُعتقد بأن مستقبل إدلب سيبقى كحاضرها، أي منطقة محاصرة مجهولة المصير تسيطر عليها مجموعات متطرفة، تلجأ على الدوام إلى القيام بعمليات تفجير واغتيالات واستهداف مناطق خفض التوتر.
وفيما يتعلق بخيارات تركيا هناك، فإنها تحاول الابتعاد عن الظهور وراء الفصائل الإرهابية، لكن في السياق ذاته، لا تريد أن تخسر نفوذها الملموس في الشمال السوري، وتتجه نحو دعم بعض الفصائل، التي قد تخدم رؤيتها بشكل ضمني، فيما يبقى اعتماد تركيا على "الحزب التركستاني" اعتمادًا مُكمّلا للاعتماد الأساسي، الذي قد يتم من خلال دعم مجالس إدارة مدنية.
ويتجسَّد ارتباط بين تركيا و"التركستاني" وفصائل سورية مسلحة لتخفيف بعض من نفوذ "هيئة تحرير الشام".
وهناك عوامل عدة تهدد الوضع القائم تتمثل في وجود ملايين النازحين، فضلا عن تهديدات بعض المجموعات الإرهابية على تركيا والغرب، فمن شأن موجة جديدة من اللاجئين أن تُنتج تحدياتٍ سياسيةً واقتصاديةً وإنسانيةً لتركيا، التي تحاول أن توازن بين مصلحتها في إبعاد أي دور للحكومة السورية عما تبقى من إدلب، وبين الحفاظ على علاقاتها مع روسيا وتفادي أي مواجهة خطرة.
وحال شن هجوم جديد على إدلب، ستطلب أنقرة مقابلاً، قد يكون مثلا السماح لها بالسيطرة على مناطق كردية جديدة، بعدما كانت استولت على مناطق حدودية واسعة في ثلاث عمليات عسكرية شنّتها ضد الفصائل الكردية، وقد ينتهي الأمر بإدلب كمنطقة تخضع للحماية التركية تسيطر عليها مجموعات مسلحة كـ"هيئة تحرير الشام" وتدير شؤون اللاجئين فيها.
ولا تلتزم أنقرة بالاتفاقات، التي أبرمتها مع روسيا لتحييد الفصائل الإرهابية في إدلب، فالهجمات على القوات السورية والروسية مستمرة في المنطقة، وتتنافى مع الاتفاقات الملزِمة بتحييد المجموعات الإرهابية، وتتجه المسارات لإعادة بناء إدلب كجسر يعيد ربط مدينة حلب، العاصمة الاقتصادية لسوريا، بالعاصمة دمشق والمناطق الساحلية الأخرى، وتوسيع نطاق سيطرة الحكومة السورية على الأرض لإنهاء الصراع بشكل أساسي واستعادة الاتصالات التجارية بين حلب وباقي مناطق البلاد، وقد صار تحقيق هذا الهدف أمرًا حيويًّا بصفة خاصة للحكومة السورية، في ظل معاناة الاقتصاد السوري من تداعيات الحرب والعقوبات الدولية والأزمات المالية في لبنان المجاورة.
إن استعادة سيطرة الحكومة السورية على إدلب قد تمثل بداية أولية لإعادة بناء اقتصاد سوريا، الذي تقدر الأمم المتحدة أنه يحتاج إلى مساعدات تزيد قيمتها على 250 مليار دولار. ما يمكن تأكيده أن تقدم قوات الجيش السوري في مناطق جنوب إدلب شكّل تحولاً استراتيجيًّا ميدانيًّا ومحوريًّا، ولعله الأهم منذ بداية الأزمة، ولم يقبل الرئيس التركي بهذا التطور، رغم أنه حاول الضغط على الحليف الروسي لإنهاء عمليات الجيش السوري، لكن دون جدوى، باعتبار أن الدولة السورية مصمّمة على استعادة أراضيها وبسْط السيادة عليها ودحر المليشيات المسلحة، وخسارةُ تركيا لمعركة إدلب ربما تقوّض دور تركيا وتنال منها أمام حلفائها خلال تسوية محتملة ومرتقبة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة