مركز التحرير الثقافي.. رئة إبداعية جديدة لجمهور القاهرة
المركز يقوم على تنوع المشهدين الثقافي والفني في مصر بحسب تعبير مديره، الذي أكد لـ"العين الإخبارية" اهتمامهم بإبراز ثراء الثقافة المصرية
لا يعرف من يمر أمام قاعة إيوارت التذكارية قرب ميدان التحرير بالقاهرة أن أغنية "افرح يا قلبي" التي غنتها أم كلثوم، قدمت لأول مرة على مسرح هذه القاعة التي تشكل علامة من علامات الميدان الشهير.
ولا يعرف البعض أن المبنى الذي يضم القاعة كان المقر الأول لجامعة القاهرة قبل أن يصبح مقراً للجامعة الأمريكية التي باشرت قبل نحو شهر الاحتفالات بذكرى مرور مائة عام على تأسيسها في القاهرة.
ورغم انتقال الجامعة إلى مبانٍ جديدة في ضاحية التجمع الخامس (30 كيلومتراً شرق القاهرة) منذ عدة سنوات لكن السؤال الذي كان يشغل الجميع: ما المصير الذي سينتهي إليه مقر التحرير بمبانيه الأثرية ذات الطراز المعماري الإسلامي اللافت؟
لم تأتِ الإجابة عن لسان مسؤولي الجامعة لكنها جاءت على لسان رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس الذي أعلن قبل نحو شهرين تحويل المباني كلها لمركز ثقافي عالمي تحت عنوان "مركز التحرير الثقافي".
ولم يفهم أحد كيف يمكن فض الارتباط بين ملكية الجامعة للمباني وقيام مؤسسة ساويرس بإعادة تأهيل المباني لتلعب دورها الجديد كمركز ثقافي في قلب القاهرة، من المقرر إطلاق أولى فاعلياته، الثلاثاء، من خلال معرض تشكيلي يضم 35 فناناً مصرياً، ويقدم العديد من الأساليب الفنية ولفنانين من أجيال مختلفة واتجاهات فنية متعددة.
ويقوم المركز الجديد على "التعبير عن تنوع المشهدين الثقافي والفني في مصر " بحسب تعبير مديره على مراد الذي أكد لـ"العين الإخبارية" طموحه في إبراز ثراء محتوى الثقافة المصرية المعاصرة وعمقها التاريخي.
وخلال جولة "العين الإخبارية" في قاعات المبنى، بدا أن مراد حريص على سرد تاريخ المكان وبالأخص قاعة إيورات التذكارية التي شهدت بالإضافة لغناء أم كلثوم الذي تكرر في الثلاثينيات من القرن الماضي محاضرات لقامات فكرية بوزن طه حسين ولويس عوض ويحيي حقي ومحمود درويش وأدونيس والمفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد، والأديبة الأمريكية هيلين كيلر، والفيلسوف الأمريكي ناعوم تشومسكي، والحائزين على جائزة نوبل نجيب محفوظ، وجيمي كارتر، وكوفي عنان، وأل جور، وأحمد زويل، بالإضافة إلى شخصيات أخرى كانت ترحب بالوجود على منابر القاعة التاريخية، وقد ظل هذا التقليد الثقافي مستمراً حتى عشر سنوات مضت.
وفي المخطط الجديد ستتحول قاعة إيورات التي جرى تجديدها في سبتمبر/أيلول الماضي بمنحة من إحدى المؤسسات الأمريكية العاملة في مصر إلى مسرح وقاعة عروض سينمائية تقدم الحفلات الموسيقية والعروض المسرحية والسينمائية بانتظام.
وتشير الزخارف الموجودة في القاعة لتداخل أكثر من نمط معماري وتعطي تعبيراً واضحاً عما ساد في العمارة خلال النصف الأول من القرن الماضي؛ حيث بدأت عملية بنائها بعد قيام سيده أمريكية بتقديم هبة قيمتها 100,000 دولار أمريكي للجامعة سنة 1925، لبناء قاعة تحمل اسم جدها الراحل ويليام دانا إيوارت، المخترع ورجل الأعمال الأمريكي الناجح لإحياء ذكراه، وكان قد زار مصر لأسباب صحية.
وقد صمم القاعة المهندس المعماري إريستون سانت جون دايامانت على الطراز المملوكي الجديد، الذي يجمع بين أساليب وتقنيات البناء الحديثة والزخارف الشرقية التقليدية. وهي تتسع لعدد 1000 شخص.
ويؤكد مراد أن فكرة المركز قائمة على استغلال قاعات مباني التحرير كلها في فعاليات تقام بالتوازي وتعطي مفهوماً تكاملياً للثقافة وتجاورياً يجمع الأدب بالتشكيل بالعمارة والموسيقى والسينما والفنون البصرية على تنوعها.
لا يقوم طموح مراد على المبالغة، فالمكان بالغ الاتساع ويتمتع بالعديد من المميزات التنافسية، فقد بدأ كقصر شيده الخديوي إسماعيل عام 1870 ليكون مقر سكن لزوج إحدى بناته، وقام بتصميم زخارف المبنى المعماري ماكس هيردز (Max Hertz) (المجر 19 مايو/أيار 1856 – زيورخ 5 مايو/أيار 1919) فى حين أن المعمارى الذي قام بتصميم المبنى غير معروف.
وفي عام 1899 اشترى التاجر اليوناني نستور جاناكليس (Nestor Gianaclis) القصر، وقام بتحويله إلى مصنع لصناعة السجائر، بعد أن قام بعدة تعديلات بالقصر ليصلح لهذا النشاط.
وفي عام 1908 ولمدة سبعة أعوام تم استغلال المبنى ليكون مقراً للجامعة الأهلية برئاسة الأمير أحمد فؤاد الأول (ملك مصر فيما بعد)، إلى أن ظهرت بشائر أول فكرة لبناء جامعة أمريكية في القاهرة عام 1916 بمعرفة مجموعة من الأمريكيين المقيمين بمصر، والذين رغبوا في تقديم شيء للبلد الذي أحبوه. كما أرادوا إنشاء جامعة عصرية تقوم يتدريس مناهج العلوم الحديثة. وهنا ولدت فكرة تأسيس الجامعة الأمريكية بالقاهرة.
وعند سؤاله عن تمويل المركز ومدى صلته بمؤسسة ساويرس للتنمية الاجتماعية والثقافية، يجيب مراد: "هناك اتفاقية بين مؤسسة ساويرس والجامعة موقعة منذ يناير/كانون الثاني عام 2018 وتم تفعيلها في سبتمبر/أيلول الماضي، تقوم على نمط خاص من الشراكة؛ حيث لا تزال تبعية المركز وإدارته تابعة للجامعة الأمريكية، فيما قدمت مؤسسة ساويرس منحة مالية لإطلاق مركز التحرير الثقافي وتشغيله لمدة عام، بالإضافة إلى تحمل تكلفة إعادة تجهيز وتأهيل القاعات معمارياً".
وينفي علي مراد تبعية المركز لمؤسسة ساويرس بوضوح، مشدداً على معنى الشراكة، لأن برامج العمل وسياسات المركز تلتزم بـ"القواعد التي تعمل بها جميع مؤسسات الجامعة الأمريكية، فنحن جزء منها ولسنا منفصلين عنها، وعلينا بداية من العام المقبل أن نضمن تمويلاً ذاتياً من عائد بيع التذاكر في مختلف المساحات المتاحة، وهذا هو التحدي".
ويوضح مدير مركز التحرير الثقافي: "المكان سيعمل على إثراء المشهد الثقافي في القاهرة عبر برامج رئيسية للأدب والموسيقى والفنون البصرية والسينما والمسرح والكثير من تلك البرامج سيكون مجانياً، وبعضها سيتاح بتذاكر يراعي التوازن بين إتاحة الخدمة الثقافية وتسليعها دون مساس بقيمتها، فالثقافة خدمة وحق، وهذا أمر نعمل على تأكيده في برامجنا المختلفة".
وفي بناء الكوادر التي تدير تلك البرامج، اختارت إدارة المركز أسماء تحظى بالكثير من المصداقية في فضاء الثقافة المصرية؛ حيث يتولى المخرج أمير رمسيس إدارة قسم السينما، ويتولى الفنان محمود حمدي مهمة قوميسير قاعات العروض البصرية، وتم إسناد مهمة إدارة المسرح للفنان سعيد قابيل، وتولت الناشرة كرم يوسف مهمة إدارة قسم الأدب، فيما يدير المايسترو هشام جبر المدير السابق لمركز الفنون بمكتبة الإسكندرية أقسام الفنون كلها.
ويؤكد جبر وهو قائد معروف من بين قادة الأوركسترا في مصر كم الجهد الذي تم إنفاقه لمناقشة السياسات والبرامج التي سيتم العمل عليها، قائلاً: "كلها برامج تضع في اعتبارها فلسفة إتاحة الخدمة الثقافية دون أي شكل من أشكال التصنيف الطبقي أو الإقصاء، لأن العبرة بقيمة المتحوى وجودته وليس أي شيء آخر".
وحسب جبر، فإن المسؤولية المتوقعة من مركز التحرير الثقافي كبيرة، وبالأرقام سيكون المركز أكبر مؤسسة ثقافية في مصر؛ حيث يشمل 7 قاعات عرض للفنون البصرية و3 مسارح متعددة المساحات ومجهزة بأحدث تقنيات العرض، إلى جانب القاعة الشرقية التي سيتم تخصيصها للأدب وحفلات توقيع الكتب، ومن المقرر كذلك افتتاح مدرسة للفنون تابعة للمركز بهدف توفير موارد مالية للمركز لضمان استمراره بنفس كفاءة لحظة الإطلاق".
وينفي جبر فكرة المنافسة مع أي مراكز حكومية أو مستقلة في مصر، مؤكداً أن الأدوار تكاملية، مضيفاً: "نحن نعمل على إثراء المحتوى الثقافي والفني وليس احتكاره والهدف هو حماية التنوع الثقافي وإبرازه وليس من بين أهدافنا المزايدة على أي قطاعات أخرى".
ووحسب الفنان محمود حمدي، مدير قاعات الفنون البصرية، فإن المهمة المتوقعة من المركز محاطة بالكثير من التفاؤل، فجميع المثقفين والمبدعين على صلة تاريخية بالمكان، وهذا هو التحدي الرئيسي القائم على تقديم محتوى جاذب لهؤلاء، ومن جانب آخر تقديم خدمة جادة؛ حيث تعاني وسط المدينة من قلة عدد القاعات المخصصة للفنون البصرية المكدسة كلها في منطقة الزمالك، وأغلب هذه القاعات يعمل بعقلية ربحية في حين سيراعي مركز التحرير الثقافي دوره التنموي ودعم مواهب شابة تقدم أعمالها لأول مرة للجمهور العام" كما سنعمل على تحرير السوق التشكيلي من القواعد التي يعمل بها، ورهاننا هو التنوع ولا شيء آخر.