استئناف الحضارة قضية مهمة، واستعادة التفوق الفكري الذي تمتعنا به قبل قرون، هي قضية أقوى، ولكنها تحتاج إلى تخطيط وهمة.
يبدو أننا في العالم العربي، ليس فقط بحاجة إلى صحوة حضارية، بل وصحوة فكرية عاجلة، تعيد لنا ألَقَنا الذي فقدناه، وإسهاماتنا في الحضارة العالمية.
ففي حديثه قبل فترة، دعا صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، إلى استئناف الحضارة العربية والإسلامية، تلك الحضارة التي كانت حاضرة بكل أبعادها الإنسانية والثقافية في مجتمعاتنا، قبل أن تتوقف ليتلقفها غيرنا.
استئناف الحضارة قضية مهمة، واستعادة التفوق الفكري الذي تمتعنا به قبل قرون، هي قضية أقوى، ولكنها تحتاج إلى تخطيط وهمة.
فما دلائل تلك الصحوة الفكرية؟، ولماذا نشعر بأننا في حاجة ماسة لها؟، وهل نحتاج فعلاً إلى استعادة حضارتنا، في وقت أصبحنا نتشارك مع الآخرين في ثقافتهم ومنتجات حضارتهم، وأدق تفاصيل حياتهم؟.
الدعوة الصادرة من الإمارات باستئناف الحضارة، لهي دعوة حريصة على العالم العربي، وحريصة على أن ترى العرب والمسلمون وقد عادوا ليتصدروا جانباً من المشهد الحضاري للعالم، لكي يثبتوا أن جهود أجدادنا المسلمين لم تضع سدى
إن نظرة واحدة على مجتمعاتنا العربية، مثلاً، تعطينا الدليل على أننا مجرد مستهلكين، نهمين بكل ما تنتجه الحضارة الغربية، على الرغم من توجيهنا الانتقاد تلو الآخر لتفاصيل الحياة الغربية، ونتاجها المادي.
فهناك ردة قوية على تعاملنا مع الغرب. ففي مجتمعاتنا العربية مثلاً، ظهرت، وكنتاج للتخبط الفكري، تيارات متخلفة، تلبس بعضها بلباس الدين، والبعض الآخر بلباس المحافظة، والبعض الثالث بلباس المحلية، كدفاع ضد العالمية، وأبرز كل فريق دفاعاته التي يريد بها أن يحافظ على مكتسباته.
وعلى الرغم من أن الصحوة الفكرية كانت مطلوبة، إلا أن تلك لم تكن لتسمى صحوة، فقد خسرت معظم تلك التيارات أرضيتها التي تقف عليها، والخاسر الأكبر، كانت الشعوب العربية، التي ما زالت تحلم بحياة سهلة، وبلقمة عيش غير مضرجة بدماء الآخرين.
لقد مر العالم العربي منذ سنوات بسيطة، بأشرس معاركه الفكرية، معركة ضد الجمود الفكري والتطرف، وأخرى ضد الظلم والاستعباد، وثالثة ضد الديكتاتورية السياسية، ورابعة ضد الفقر والجهل والتخلف، وكانت تلك كلها تحديات مهمة، نجح العالم العربي في تخطي بعضها، وفشل في الأخرى. ومن الواضح أن جميع تلك المعارك، تتعلق بالمتغيرات الفكرية التي يجب على العالم العربي القبول بها، في معركة استئناف الحضارة.
لقد أثبتت المجتمعات العربية خلال العقد الأخير، قدرتها على تجاوز العديد من المحن، أهمها الاستعباد السياسي، كما أدركت أن التطرف بكافة أشكاله، لا يقود إلى شيء سوى تدمير الذات والتهميش والبعد التدريجي عن القيم الأصيلة، والانكفاء على الذات، وجميعها صفات لا تقود إلا إلى التهميش الحضاري.
لقد ظهرت صيحات معتدلة، تدعو إلى استئناف الحضارة، عن طريق الحوار مع النفس أولاً، قبل الحوار مع الآخرين، والتصالح مع الذات، قبل إظهار التسامح والقبول بالآخر، والرجوع إلى ما كان يميزنا في الماضي من ابتكار ونبوغ علمي، الذي هو الطريق الوحيد إلى البروز ضمن المنظومة العالمية.
لقد كان أجدادنا في الماضي، ورغم كل التحديات التي كانت في طريقهم، مصممين على النهوض والبروز، لأن ذلك فيه مصلحة لهم ولمجتمعاتهم. وقد نجحوا، على الرغم من كل التحديات، لأن أهدافهم كانت واضحة، وأفقهم واسعاً، لم تسعه الأرض ولا السماء.
لقد حاول عباس بن فرناس، مثلاً، الوصول إلى الفضاء، قبل أن يدرك الآخرون أهمية الفضاء واستخداماته للإنسان، واخترع الزهرواي، الأدوات الطبية، قبل أن يتحرك الآخرون لاختراع مثل تلك الأدوات وإجراء العمليات الطبية المعقدة في بلاد الغرب، واخترع العرب والمسلمون الكاميرا أو «القمرة»، قبل أن يخترعها الغربيون ويتسيدون المشهد التقني في العالم اليوم.
فماذا ينقصنا الآن عن تكرار ذلك المشهد العلمي والتقني: هل غياب الصحوة أو الدعم، أم أن البيئة ككل لم تعد محفزة؟، لقد فقد العرب الكثير من العقول والمال، كنتاج للتدهور العلمي والتقني والحضاري. فقد هاجرت الآلاف من العقول إلى الغرب، سعياً وراء مساحة فكرية حرة، وبيئة علمية محفزة، وتمويل سخي للعلوم والتقانة، عوضاً عن تمويل للأصوات والتيارات المتطرفة والفكر المهجن.
إن الدعوة الصادرة من الإمارات باستئناف الحضارة، لهي دعوة حريصة على العالم العربي، وحريصة على أن ترى العرب والمسلمين وقد عادوا ليتصدروا جانباً من المشهد الحضاري للعالم، لكي يثبتوا أن جهود أجدادنا المسلمين لم تضع سدى.
لقد استفاق الغرب يوماً على حقيقة أن العرب والمسلمين قد سبقوه في التسيد الحضاري، ولهذا لم يضع أي وقت، لقد خطط ونفذ ووصل إلى ما يبغيه بصورة ديناميكية أدهشت العالم، بما فيهم العرب والمسلمون أنفسهم، فهل يدرك العرب والمسلمون أن الحضارة قابلة للدوران، وأنها قد تكون على مرمى البصر منهم؟.
نقلا عن "البيان"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة