المعطيات من حولنا تشير إلى اتساع الشُقة بين مؤسسات النظام الدولي الراهن التي نشأت من 75 سنة، والتطورات التي طرأت في واقع العلاقات
لست متحمسا للمبالغات التي ترد في بعض المقالات والتحليلات بشأن الآثار المترتبة على وباء مرضفيروس كورونا، من قبيل "موت الديمقراطية"، و"ولادة نظام عالميجديد"، و"هل تستمر الأمم المتحدة"، و" عالم جديد تماما".
ومبعث موقفي هذاهو أننا ما زلنا في وسط العاصفة، ولا يجب أن تعطينا إجراءات تخيف الاحتياطاتالاحترازية التي اتخذتها عديد من الدول الانطباع أن الخطر أصبح وراء ظهورنا، فهذاغير صحيح فلم يتوصل العالم بعد إلى مصل للوقاية من المرض أو دواء لعلاجه.
وباستثناء ولايةنيويورك الأمريكية فان أغلب الولايات الأخرى تشهد زيادة في عدد المصابين، وتسجلالصين وسنغافورة موجة جديدة لانتشار المرض. ويدفعنا كل هذاإلى ضرورة الحذر والتروي في إصدار الأحكام بشأن آثار الأزمة في الأجلين المتوسطوالطويل، لأن تحديد هذه الآثار يعتمد على طول مدة الأزمة، وحجم الخسائر التيتحدثها، وكيفية تعامل الدول والمجتمعات معها.
أركز في هذاالمقال على الأفكار المتداولة عن نشوء نظام دولي جديد بعد انتهاء الازمة، وذلك فيضوء تحديد المقصود بالنظام الدولي والظروف التي ينشأ في ظلها نظام جديد.
فمفهوم النظام الدولي أو العالمي يشير إلى العلاقاتوالتفاعلات التي تحدث بين أطرافه التي تتكون من دول، ومنظمات دولية وإقليمية،وفاعلين من غير الدول كالشركات العملاقة العابرة للحدود وتنظيمات الجريمة المنظمة والإرهاب وغيرها.
تتسم هذه العلاقات بخليط من التكامل والتعاون، والمنافسة،والصراع والتناحر. وعادة ما توجد "تصاعدية" أو "تراتبية" فيأي نظام دولي ما بين أطراف عظمى كبرى ومتوسطة وصغرى ومتناهية الصغر، وذلك حسبتوزيع مصادر القوة والنفوذ والتأثير. ويستمر النظام الدولي طالما أنه يحمي مصالحالدول الكبرى والأكثر تأثيرا في مجريات أمور العالم، ويتعرض لأزمات ثم للانهيارعندما تتعارض مصالح تلك الدول وتدخل في صراع بينها.
وفي التاريخ، نشأة النظم الدولية في أعقاب حروبأحدثت تغيرات جسيمة على أطراف النظام. ففي أعقاب الحرب العالمية الأولى التي داررحاها أساسا بين دول الحلفاء (المملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا وروسيا التي خرجتمن الحرب عام 1917 بقيام الثورة البلشفية فيها)، ودول المركز (الإمبراطورياتالألمانية والنمساوية-المجرية العثمانية ومملكة بلغاريا)، قامت الدولالمنتصرة(الحلفاء) تفكيك أوصال الامبراطوريات المهزومة، والسيطرة على مستعمراتها.وانعقد مؤتمر فرساي للسلام الذي أنشأ تنظيما دوليا جديدا باسم" عصبةالأمم" في يونيو 1919.
المعطيات الواقعية من حولنا تشير إلى اتساع الشُقة بين مؤسسات النظام الدولي الراهن التي نشأت من 75 سنة، والتطورات التي طرأت في واقع العلاقات السياسية والاقتصادية الدولية.
وكان هذا المؤتمر اجتماعا للمنتصرين الذين فرضوا شروطهمعلى الدول التي خسرت الحرب وأقامت هذا التنظيم الدولي لحفظ السلم وحماية العالم منأخطار حرب جديدة. وحرص المنتصرون على أن تمثل مؤسسات العصبة وضعهم المتميز، فتكونتمن مجلس العصبة الذي ضم ثمانية أعضاء وهو المجلس الذي يمتلك سلطة القرار فيالمنظمة، ومجموعة الدول "المدعوة" وهي الدول الذي قرر المجلس دعوتهالعضوية العصبة، والدول" المنتخبة" وهي تلك التي تقدمت بطلبات عضويةللمنظمة تم بحثها والموافقة عليها.
استمرت العصبة في الوجود طالما استمر التوافقبين مصالح الدول الكبرى، وبدأت أزماتها عندما اختلفت هذه المصالح، وانتهكت بعضالدول مبادئ العصبة مثل اعتداء اليابان على الصين في منطقة منشوريا، وغزو إيطالياللحبشة، وغزو ألمانيا النمسا وتشيكوسلوفاكيا، وعدم قدرة المنظمة الدولية على منعهذه الاعتداءات أو معاقبة الدول التي قامت بها.
وتكرر المشهد في أعقاب الحرب العالمية الثانيةالتي نشبت بين دول الحلفاء (أمريكا والمملكة المتحدة وفرنسا والاتحاد السوفيتيوالصين قبل انتصار الحزب الشيوعي فيها)، دول المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان).فتم إقامة نظام دولي جديد قوامه " هيئة الأمم المتحدة" وذلك في مؤتمرسان فرانسيسكو في أكتوبر 1945.
وقنن ميثاق الهيئة الجديدة وضع الدول المنتصرةفأصبحوا أعضاء دائمين في مجلس الامن، و امتلكوا حق الفيتو على القرارات التي يصدرهاالمجلس.
وسرعان ما تعرضت المنظمة الوليدة لأزمة بسبب الحرب الباردة بين أمريكاوالاتحاد السوفيتي التي اتسع نطاقها ليشمل العالم كله، واستخدمت الدولتان حقالفيتو لمنع القرارات التي لا توافق عليها، مما أصاب أعمال المجلس بالجمود وعجزهعن القيام بدوره الذي نص عليه الميثاق.
وفي التسعينيات من القرن الماضي ورغم أنه لمتنشب حرب عالمية ثالثة، فقد ظهر نظام دولي جديد في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتيوتفككه إلى خمس عشرة دولة.
ولمدة أربعة عقود سابقة عاش النظام الدولي مرحلة "الثنائية القطبية" التي أوجدت نوعا من التوازن بين المعسكرين الغربي والشرقي.وبانتهاء أحد طرفي المعادلة، وتحول عشرات الدول في العالم إلى تبني النظم السائدةفي الغرب، أصبح للولايات المتحدة اليد الطولى في تسيير أمور النظام الدوليباعتبارها " القطب الواحد".
واستمر هذا الوضع لعدة سنوات لحين ظهور قوةروسية-صينية موازنة وضعت حدا للانفراد الأمريكي، ولكنها لم تبلغ درجة من القوةتمكنها من فرض تصوراتها على أمريكا وحلفائها. وظل الطرف الأمريكي-الغربي يمتلك منأسباب القوة ما يسمح له بالتكيف مع هذه التغيرات دون التسليم بها تماما.
ودلالة هذا التحليل، أنه ينبغي التمييز بينمؤسسات النظام الدولي من ناحية وأنماط تفاعلاته وقيمه من ناحية أخرى، وإدراك أنالتغيير يمكن أن ينصرف إلى إحداها دون الأخرى.
تتغير مؤسسات النظام برمتها في أعقاب انهيار سابقتها الذي يحدث في أعقابالحروب عندما يقوم المنتصرون بإقامة مؤسسات وقواعد وإجراءات تحمي مصالحهم، وتوفرلهم فرصة أكبر في إدارة شئون العالم. ويتغير نمط التفاعلات والقيم في النظام عندماتحدث تغيرات جسيمة في توازن القوى بين الدول الكبرى في النظام وانتقال مصادرها منطرف لآخر، أو عندما تنشأ قوة جديدة لم تكن جزء من ترتيب الأوضاع السابقة، فتستمرالمؤسسات ولكنها تعمل وفقا لرغبات الأطراف الأقوى وتوجهاتها.
والمعطياتالواقعية من حولنا تشير إلى اتساع الشُقة بين مؤسسات النظام الدولي الراهن التينشأت من 75 سنة، والتطورات التي طرأت في واقع العلاقات السياسية والاقتصاديةالدولية.
انهار تحالف الدول الخمس المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، بل وتصاعدتالخلافات بين أمريكا والاتحاد الأوروبي، لم تعد واشنطن هي القوة الاقتصادية الأعظمالتي تساهم بنحو 50% من إجمالي الناتج العالمي، بل تراجع الآن إلى أقل من 20%،وتصارع نمو الصين التي تشغل المرتبة الثانية في الاقتصاد العالمي لاجتياز الفارقالبسيط الذي يفصلها عن أمريكا. ولكن الاقتصاد العالمي ما زال يعتمد على قاعدةالدولار الذي استمر العملة المفضلة فيالمعاملات التجارية بين دول العالم.
اهتز الدور القيادي لأمريكا، وأفصح الرئيس ترامب أكثر من مرة عن عدم استعداد بلاده لتحملأعباء الزعامة العالمية، فقد أصبحت تكلفتها تفوق بكثير عوائدها حسب تعبيره. وسعتبكين وموسكو للقيام بأدوار بديلة ، ولكن ظلت واشنطن ممسكة بأوراق اللعبة في كثيرمن الأزمات الدولية ولا يوجد حقيقة بديل فعلي عنها.
تغير العالم..وطرح الروس والصينيون على مدى السنوات العشر الأخيرة أفكارا وتصورات لتغيير مؤسساتالنظام الدولي وأيدتها كثير من الدول النامية، ولكنها لم تلق استجابة من الولاياتالمتحدة. نعم تغير العالم، ولكن ليس إلى الدرجة التي تعطي للقوى الداعية للتغييرالقول الفصل في هذا الشأن.
صحيح أن الطريقة التي تعاملت بها الصين مع أزمة وباء الكورونا أضافت إلى رصيدها الدوليالإيجابي، لأنها نجحت في السيطرة على الوباء – على الأقل في المرحلة الراهنة-وقدمتمساعدات طبية لأكثر من مئة دولة، ولكن الوجه الآخر لذلك أن أمريكا تتهم الصينبأنها تسببت في انتشار المرض بسبب إخفائها المعلومات الكاملة عن الموضوع، ووصفالرئيس ترامب المرض مرة بأنه "المرض الصيني"، ومرات بأنه " المرضالمستورد".
وتبقى مفارقةتتمثل في أنه عندما طلب عدد من أعضاء مجلس الأمن مناقشة موضوع أزمة وباء كوروناأمام المجلس وإصدار بيان بشأنه، فإن أمريكا والصين اعترضتا على الفكرة. الأسباببالطبع مختلفة ولكن النتيجة والمصلحة في النهاية واحدة.
وهكذا، فإن المعطيات وسياسات الدول الكبرى لا تشير إلى أنها بصدد مراجعة أوضاع مؤسسات النظامالدولي وفي قلبها الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، فمثل هذه المراجعة تحتاج إلىتوافق بين الدول الكبرى وهو غير متوافر الآن مما يجعل هذا التغيير أمرا غير وارد.
ولكن التغيير سوف يحدث في نمط تفاعلات النظام الدولي وهو الأمر الذي بدأ من سنواتوما زال مستمرا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة