«البينة على من ادعى».. قاعدة فقهية وقانونية شهيرة تجبر من زعم شيئا على غيره أن يثبته بالدليل والحجج، لكن ما بالك بادعاء لا بنيان له ولا قرائن، ادعاء منسوج بخيوط العنكبوت الهشة، ما لبث أن ذهب أدراج الرياح في أول مواجهة حقيقية.
وما أفضل أن تأتي الحقيقة من على منبر القضاء الدولي، حينما نطق العدل كلمته، فأسدل الستار وكتب تتر النهاية لمحاولة بائسة لتشويه موقف دولة تسعى دوماً للسلام، وأخذت خدمة الإنسانية نبراساً ومنهجاً، غير عابئة بمن أرادوا بها السوء بتوجيه الاتهامات بغير وجه حق، لغض الطرف عما يرتكبونه من جرائم ضد بني وطنهم.
ففي حكم تاريخي غير مسبوق منذ ربع قرن، أسقطت محكمة العدل الدولية الدعوى المقدمة من حكومة الجيش السوداني ضد دولة الإمارات، معتبرة أن لا ولاية لها للنظر فيها، وقررت رفض القضية من حيث الاختصاص ومن حيث المقبولية بل وشطبها من سجلاتها، وهو ما يُعد -قانوناً- حكماً نهائياً ينهي المسار القضائي برمته، ويمنع إعادة طرح القضية أمام المحكمة ذاتها، ويقطع الطريق أمام أي تصعيد قانوني ذي طابع دولي.
فقد أكدت محكمة العدل الدولية في قرارها أن الادعاءات السودانية لم تستوفِ الشروط الشكلية الأساسية المنصوص عليها في النظام الأساسي للمحكمة، ما يعني أن قادة الجيش السوداني فشلوا في تقديم أدلة قانونية تثبت العلاقة بين ما يزعمه وبين ما تختص به المحكمة من حيث الموضوع.
ما جرى في لاهاي قرار قانوني جاء بأغلبية ساحقة لقضاة أعلى محكمة دولية ما يعكس وضوح الحقيقة وافتقار الادعاءات لأي أساس قانوني أو حتى منطقي، ليس هذا فقط بل كان بياناً دولياً مدوياً ضد عبثية الاتهام، والمحاولات الممنهجة لتحميل دولة الإمارات وزر صراع دموي لم تكن يوماً من صانعيه، بل عكس ذلك كانت وما زالت وستظل دوماً من الساعين لإخماده.
لقد حاول قادة الجيش السوداني أن يصرفوا الأنظار عن المأساة المتفاقمة في بلادهم، وعن الدور الدموي الذي ألحقوه بشعبهم، بإلقاء التهم جزافاً على دولة الإمارات، الدولة التي لم تتوانَ يوماً عن مد يد العون، وإرسال القوافل الإنسانية، واستغلال المنابر الدولية والأحداث العالمية للدعوة إلى وقف القتال، ولم ولن تيأس دوماً في رعاية أي مبادرة تؤدي إلى تسوية تحفظ للسودان وحدته، ولشعبه كرامته، وللدماء حرمته.
لقد ظن البعض أن بالإمكان توظيف القضاء في لعبة السياسة، وأن اتهاماً مرسلاً بلا دليل يمكن أن يجد له صدى في قاعات العدل، لكن ميزان المحكمة لم يفقد توازنه، ولم يخن مبادئه، والحق لا يسلب بالضجيج، والباطل أمده دوماً قصير ودلائله هشة، وقرائنه رعشة، فجاء القرار ليؤكد أن دولة الإمارات لم تُدن، لأن الدعوى سقطت بالكامل من العتبة الأولى ووُئدت في مهدها، إذ لم ترق إلى الحد الأدنى من الأهلية القانونية.
وبالتالي، فإن الأثر القانوني للحكم الصادر لا يتجاوز إسقاط الدعوى فحسب، بل يعزز من مكانة الإمارات كدولة تحترم القانون الدولي وتحسن استخدام أدواته حين تستهدف زوراً، كما يُضعف مستقبلاً من أي محاولة مشابهة، سواء من ذات الجهة أو غيرها، لتكرار مثل هذه الادعاءات على المسرح القضائي الدولي.
إنها ليست أول محاولة، ولن تكون الأخيرة، من أطراف أرادت أن تجعل من الدولة الحريصة على السلم شماعة يعلقون عليها إخفاقاتهم ومآسيهم الداخلية، ولكن ما لا يدركه هؤلاء أن صورة دولة الإمارات، ومواقفها الثابتة، ونشاطها الدبلوماسي الهادئ، وجهودها الإنسانية، أكبر من أن تشوهه بضع افتراءات، أو أكاذيب تفتقر إلى الحنكة والمصداقية.
لم تكن دولة الإمارات قط في موضع المتهم، بل في موضع الدولة المُستهدفة سياسياً، ضمن مناخ مشحون بالدعاية الإعلامية والتحريض، إذ جاء في الدعوى السودانية ما يفوق الخيال من مزاعم، منها «ارتكاب أعمال إبادة جماعية في دارفور»، وهي ادعاءات لم تُدعم بأي دليل ملموس، ولم تجد المحكمة فيها ما يرقى لحد النظر القانوني.
وهكذا، لم تسقط الدعوى وحدها، بل سقطت معها الأقنعة، وسقط الخطاب المشحون الذي أراد أن يستبدل بالحقائق الشائعات، وبالحق الباطل، وأمّا الإمارات، فتمضي في مسارها، لا تحيد عن مبادئها، ولا تهتز أمام حملات التضليل، لأنها تستمد قوتها من صدق نواياها، وعدالة موقفها، واحترام العالم لثباتها في زمن تتبدّل فيه الولاءات وتُباع فيه الأوطان بأبخس الأثمان.
فليكن هذا الحكم شاهداً على أن للعدالة كلمتها، وللحق أنصاره، ولتكن دولة الإمارات كما كانت دوماً، صوت الحكمة حين تصمت البنادق، ويد السلام حين تشل السياسات، وعنواناً لدبلوماسية لا تستعرض قوتها، بل تنسج خيوطها بحكمة، وتبني جسورها على أساس من الثقة والاحترام المتبادل.
أما من يلوكون الافتراء، ويستنفرون المنصات للتشكيك، فليدركوا أن الحقيقة لا تُسكت، وإن صمتت للحظة، فإنها تعود بصوت أعلى، وبيان أبلغ، وشهادة موثقة من أعلى محكمة في العالم.
هكذا أُغلقت القضية وأُعدمت أوراقها، لكن تبقى الأسئلة مفتوحة، مَن المسؤول عما آلت إليه الأوضاع في السودان؟ مَن أجج الصراع؟ مَن أيقظ الفتنة؟ مَن وأد السلام؟ مَن رفض الحوار؟ مَن منع دخول المساعدات؟ مَن في مصلحته أن يبقي جرح السودانيين مفتوحاً ينزف دماً فوق دم مسفوك، لم يشفع لحرمته تلك الأشهر الحرم التي بدأت لتوها؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة