تفيد التكهّنات المستقبلية أنّ حياتنا أصبحت تتركّز أكثر فأكثر في الشاشة، ومصيرنا هو الرقمنة، ونبض القلب هو الإنترنت.
بعد أنْ عصفت كورونا بحياتنا الطبيعية، أصبح من الطبيعيّ أن نرى عائلة مكوّنة من خمسة أفراد تعمل كخلية النحل في البيت: الأب يعمل من كومبيوتره، كذلك الأمّ، والأولاد الثلاثة: كلّ واحد منهم يتابع مدرسته انطلاقا من لوح الآيباد المرتبط بمدرسته. وربما لم يعد هؤلاء ينظرون في وجوه بعضهم إلّا قليلا، لأنّ تركيزهم انصبّ على شاشات الكومبيوتر ولوح الآيباد.
الأب صحافي، والأمّ مهندسة معمارية، والابن الكبير يدرس هندسة الطيران، والولد والبنت في الخامس الابتدائيّ، أي أنّهم في حالة تواصل عمل وكسب معرفة في آن واحد. المؤسّسات تريد من أفراد هذه العائلة أن يقدّموا أعمالهم، وينجزوها على أكمل وجه، وهذا ينطبق على أفراد العائلات العاملين والدارسين جميعا في العالم.
ها نحن نعتمد أكثر فأكثر على الآلات لتنفيذ وظائف روتينية عديدة، وسيصبح المستقبل مفتاحا له كالروبوت مثلا.
ما هو السّرّ الذي يجعلنا نجلس أمام شاشات كومبيوتراتنا ساعات طويلة صباح مساء دون كلل أو ملل؟ السّرّ يكمن في شغف الإنسان، وسعيه المتواصل لكسب المعارف، حتى أنّ شاشة الكومبيوتر انتصرت على شاشة السينما والتلفزيون.
السؤال المطروح:
هل ستصبح حياتنا على هذه الشاكلة طوال العقود المقبلة؟
تفيد التكهّنات المستقبلية أنّ حياتنا أصبحت تتركّز أكثر فأكثر في الشاشة، ومصيرنا هو الرقمنة، ونبض القلب هو الإنترنت.
المتغيّرات حدثت، ولا يمكن الرجوع عنها أبدا، بل أنّ سوق العمل أخذ ينتج آلياتٍ جديدة، وأصبح توظيف الموظّفين عن بعد جزءا من اقتصاد المؤسّسات. ومن المتوقّع أن تنتشر مدارس التعليم عن بعد، وتحلّ محلّ المدارس التقليدية في القريب العاجل ضمن واقع جديد يفرض نفسه على الجميع بعد أن كان يُنظر إلى العمل والدراسة عن بعد نظرة دونيّة في معظم بقاع العالم قبل اجتياح كورونا.
لم نَعدْ نجلس أمام الشاشات، ونستخدم التقنيات الحديثة لمحض التسلية وتخفيف الملل، بل أصبح في صلب إنتاجنا الوظيفيّ.
من الواضح لن تكون الحياة الوظيفية مستقبلا كما كانت من قبل، وكلّ أصنافها ستصبح عن بعد، انطلاقا من الشاشات أيضا.
هذا كلّه ألقى بظلاله على كينونتنا البشرية، وقد سبق علم المستقبليات كورونا في التنبؤات.
مَنْ يدري، ربّما ما نستخدمه الآن من تقنيات سوف يصبح قديما بمرور الزمن، إذ لم يعد الموظّف المثاليّ هو المتدرّب على مهنة معيّنة، ولا تعني إجادتها شيئا في بعض الأحيان، لأنّ معايير العلم و الجهل تغيّرت قوانينها، فمن يعرف القراءة والكتابة يبقَ جاهلا لو لم يعرف استخدام التقنيات الحديثة، ويجيد اللغات الأجنبية.
لعلّ الجيل الجديد متقدّم على أجيالنا السابقة بسنوات ضوئيّة، في مجالي استخدام التقنيات الحديثة وإجادة اللغات الأجنبية. والجهل الأكبر الآن هو جهل اللغة الإنجليزية لأنّ 99 بالمئة من محتوى الإنترنت باللغة الإنجليزية، و1 بالمئة المتبقية مخصّصة للغات العالم الأخرى.
لا يشكّل عدد الموظفين العاملين عن بعد، والطلبة الذين يدرسون عن بعد، أعدادا كبيرة، لأنّ معظم المؤسّسات والشركات والمدراس لا تمتلك البنية التحتية اللازمة للعمل عن بعد، وهنا تكمن مشكلتنا في اللحاق بركب التطوّر في العالم، لأنّ انتشار الإنترنت والكهرباء ما يزال ضعيفا مقارنة بعدد السكان في عالم محموم بسباق التقدّم التكنولوجيّ السريع.
تقول المقولة الرائجة: مَنْ يُسيطر على فضاء الإنترنت يسيطر على العالم.
إنّ هذا يؤدّي بنا إلى طرح الموضوع الجوهريّ، وهو أنّ الآفات والأوبئة والأمراض هي التي تفرض آلياتها علينا، كما أنّ الحرب تفرض آلياتها، وتحقّق الانتصار، أو تجرّ أذيال الهزيمة.
نحن أمام معطيات حقيقيّة ملموسة على الأرض، وهي التي تجعلنا في قائمة المنتصرين، أو في قائمة المهزومين.
العالم اكتشف أوضاعه المزرية بعد كورونا، حتى في البلدان المتطورة، وليس بلدان العالم الثالث فقط، وخاصة في ميدان العناية الصحية، وبنية المؤسّسات الصحية حتى تحوّلت الفنادق إلى مستشفيات.
هناك داء كبير غير مرئيّ يتحدّى أكبر البلدان في العالم، وهو طول عمر الإنسان بفضل التقدم الطبّيّ، لكن هذا يجرّ ويلات على البلدان من حيث ضمان واستمرارية تقاعد هؤلاء الأفراد. وهذا ما يحتّم إعادة النظر في المستقبل. إذا كان الموظّف الشاب سيعيش فترة أطول من والده فعليه أن يخطّط لحياته بشكل مغاير للآليات التي اتّبعها والده.
كيف يتمّ تمويل حياة البشر الممتدّة؟
سؤال يقلق الحكومات والأفراد على حدّ سواء.
هل الجلوس أمام شاشات الكومبيوتر قادر على ضمان حياتنا المستقبلية؟
هل ستستمرّ الوظائف المتوفّرة الآن، يا تُرى؟
نحن -جيل الصحافيين القدامى- لم نتوقّع أن يأتي يوم تتحوّل فيه الصحافة إلى إلكترونية، وقد حصل ذلك.
هنا أخمّن أنّ الصحافة الإلكترونية نفسها لن تبقى على حالها، وقد يتمّ اكتشاف طريقة أخرى في استلام المعلومات والأخبار، وتصبح الصحافة الإلكترونية آنذاك طريقة قديمة عفا عليها الزمن. والصحافة الجديدة قد تخضع إلى إنتاج الذكاء الاصطناعيّ، تتخلّى عن الصحافيين كلّيّا من خلال برمجة المعلومات الصحافية دون الحاجة إلى صحافيين، وهذه توقّعات شخصية لا أكثر.
كثير من المهن انقرضت، وأخرى في طريقها إلى الانقراض، ومعها تنقرض معارف وكنوز كثيرة. مَنْ قال إنّ الهاتف المحمول أصبح بديلا عن الكومبيوتر المحمول؟ ومَنْ يقول إنّ اليوتيوب يهدّد التلفزيون الذي أصبحت مشاهدته تقلّ يوما بعد آخر حسب إحصائيات مراكز البحث.
ها نحن نعتمد أكثر فأكثر على الآلات لتنفيذ وظائف روتينية عديدة، وسيصبح المستقبل مفتاحا له كالروبوت مثلا. ومتى ما أضفى الإنسان عليه من صفاته الإنسانية تنتفي الحاجة إلى صانعه آنذاك.
هكذا أصبح التطوّر التكنولوجيّ سلاحا ذا حدّين دون أن نشعر.
مع شاشاتنا يجب علينا أن نعتني بعيوننا، فضعفها يعني ضعف الكفاءة الوظيفية، لأنّنا محاطون بالشاشات: شاشة الكومبيوتر، شاشة التلفزيون، شاشة الهاتف المحمول، شاشة السينما، شاشة مراقبة البيت ومواقف السيارات، شاشة المصعد الكهربائيّ، شاشة طلبات الثلاجة الذكية، شاشة الألعاب الرياضية، شاشة مراقبة الأولاد في البيت، شاشة الساعة اليدوية، وشاشة مراقبة الخادمة.
مصيرنا هكذا في مهبِّ شاشة ما بعد كورونا والرقمنة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة