يوم الخميس الماضي كانت وزارة الداخلية السعودية تعلن القبض على 18 إرهابياً، يتوزعون على أربع خلايا عنقودية مرتبطة بـ «داعش»
يوم الخميس الماضي كانت وزارة الداخلية السعودية تعلن القبض على 18 إرهابياً، يتوزعون على أربع خلايا عنقودية مرتبطة بـ «داعش»، وذلك في مناطق: مكة المكرمة، والمدينة المنورة، والرياض، والقصيم. وخلال الفترة التي نشطت فيها الخلايا الأربع، قبل القبض على أفرادها، كانت تروّج للفكر التكفيري الإجرامي في أوساط الشباب، وتوفر التمويل للعمليات الإرهابية، وتجند المخدوعين، من طريق التقاطهم من التجمعات الشبابية أو من شبكة الإنترنت، لتحويلهم إلى أدوات قتل، سواء في بلادهم ذاتها أم في جبهات قتال أخرى.
لن يكون هذا هو البيان الأخير من نوعه بالتأكيد، فلن يُقطع دابر «داعش» وأذنابها بسهولة. وللأسف، لن تكون التكاليف المادية والبشرية هينة. وإذا كانت دول الخليج قادرة، بفعل كفاءة أجهزة الأمن والمنعة المجتمعية، على تقليص هذه التكاليف، فإن دولاً أخرى ستتكبد كثيراً من مقدراتها الاقتصادية ومن أرواح أبنائها، ومن نزف الفرص الاقتصادية المرتبطة بتوافر الأمن والاستقرار، ومن التماسك المجتمعي والثقة بكفاءة القيادة.
وأسباب ظهور «داعش» متعددة، لكن من الضروري القول إن هناك جهات كثيرة «استثمرت» في «داعش» وراهنت عليه لتحقيق ما كانت تراه مصالح لها في خريطة معقدة ومتداخلة وحافلة بالصراعات الدامية في السنوات الأخيرة.
الولايات المتحدة بين من استثمروا في تنظيم «داعش»، وذلك منذ ظهوره الغامض واجتياحه مساحات واسعة من الأرض في العراق، متغلباً على فرق عسكرية جرارة انهزمت، تاركةً وراءها عتاداً عسكرياً هائلاً ومئات الملايين من الدولارات في فرع البنك المركزي بالموصل، وثروات نفطية تحت سلطة التنظيم الذي أتيحت له كل أسباب الحياة فجأة. ولقد ابتُذلت حقاً نظرية المؤامرة، لكن أليس غريباً أن يحدث كل هذا على مرأى ومسمع من الولايات المتحدة الأميركية، وعلى مقربة من قواتها العسكرية وأجهزة استخباراتها؟ أليس حدوث ذلك كله بعد سنوات من التبشير بـ «الفوضى الخلاقة» دافعاً إلى وضع علامات استفهام كثيرة؟
إيران بدورها كانت ممن استثمروا في «داعش»، ومن قبل كانت تلعب بورقة «القاعدة». وظهر «داعش» في العراق وسورية، أي في الدولتين اللتين تمتلك إيران فيهما نفوذاً وحضوراً سياسياً وعسكرياً. وكان ظهور «داعش» بوحشيته محورياً في تحويل الأنظار عن قضايا جوهرية تتعلق بدور إيران التخريبي في المنطقة، مثل السياسات الطائفية التي استخدمتها الحكومات العراقية، والفساد الذي استشرى في كل مفاصل الدولة في العراق، وارتهان قرار بغداد لإيران. وفي سورية حدث تحول مشابه لمصلحة إيران، وفي لبنان تمت التعمية على خطر إرهاب «حزب الله» بفعل ما أحدث ظهور «داعش» من رعب. وبهذا كان ظهور «داعش» طوق نجاة لإيران، وربحاً خالصاً لها. فضلاً عن تساؤلات كثيرة عن عدم قيام «داعش» بأي عمل أو نشاط داخل إيران.
جهات أخرى ذات صلات بالإسلام السياسي استثمرت في «داعش»، يدفعها خليط من أطماع سياسية ورهانات أيديولوجية، وعلى رأسها تركيا، التي اندفعت من أجل «هندسة» الوضع في سورية خصوصاً، وفي العراق، على النحو الذي يلبي أوهاماً إمبراطورية تتداخل معهاأيديولوجية «الإخوان المسلمين» التي تحكم كثيراً من السلوك السياسي لرجب طيب أردوغان وحزب «العدالة والتنمية». ونشرت مئات التحليلات السياسية التي أوضحت أن تركيا كانت شريان الحياة لـ «داعش»، ومصدر عبور للمقاتلين من مختلف أنحاء العالم، وعميلاً يوفر التمويل للتنظيم الإرهابي من خلال القنوات الرسمية والجمعيات الأهلية وتجارة النفط المنهوب. ولم يكن بدٌّ بعد تعقد المشهد من أن ينقلب «داعش» على الأتراك، وتضرب التفجيرات مدن تركيا، مخلفة مئات القتلى والجرحى، وانحساراً للسياحة، التي تمثل أحد مصادر الدخل المهمة، وعدم استقرار وصل إلى ذروته في الانقلاب الفاشل الذي عكس حدة الانقسام في تركيا.
تونس نموذج آخر لاستثمار أفرع جماعة الإخوان المسلمين في «داعش». وفي آذار (مارس) من العام الماضي قدرت «مجموعة سوفان»، وهي منظمة بحثية معروفة، أن عدد المقاتلين الأجانب في سورية والعراق يبلغ 11 ألف مقاتل، منهم 6500 مقاتل من تونس وحدها، أي أن هذا البلد العربي الصغير أمد الجماعات الإرهابية في سورية والعراق بأكثر من نصف المقاتلين الأجانب. وقد تم ذلك في المراحل الأولى بموافقة ضمنية من حكومة حزب «النهضة» الإخواني، التي كانت تساند المتطرفين في تونس وتعتبرهم ظهيراً لها وقت الحاجة.
ووفق تقرير نُشر في مجلة «نيويوركر» في نيسان (أبريل) من العام الماضي عن تونس، بعنوان: «تصدير الجهاد»، فإنه في عام 2012 هاجم المتشددون المساجد، وفرضوا نظاماً للزي على المواطنين، وهاجموا الجماعات الثقافية، ولم تتحرك حكومة «النهضة» الإخوانية ضدهم، في إشارة إلى موافقتها على ما يفعلون. وعلى رغم أن ضرورات العمل السياسي أجبرت «النهضة» على التخلي عن هذه الصلات، فلا يمكن تصور أن فراقاً حقيقياً حصل بين الجانبين، ودفعت تونس أيضاً ثمناً باهظاً، مع العمليات الدموية التي نفذها الإرهابيون في أهم مرافقها السياحية.
جماعة «الإخوان» الأم في مصر لم تكن بعيدة من الاستثمار في «داعش»، إذ أقامت خلال حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي روابط مع حركات متطرفة اتخذت من سيناء مقراً لها، وأمدتها بالعتاد والسلاح، وتغاضت عن عمليات إرهابية متكررة مثل تفجير خطوط الغاز في سيناء، لكي تجعل الجماعة من هذه التنظيمات المتطرفة شوكة في جنب مصر وعامل ضغط إذا أطيحت الجماعة من الحكم، وأعلنت هذه الحركات الإرهابية ولاءها لـ «داعش» في ما بعد. والاعتراف بالصلة بين هذه الحركات وتنظيم «الإخوان» جاءت صريحة على لسان القيادي الإخواني محمد البلتاجي، الذي صرح في خضم العنف الذي أعقب إطاحة محمد مرسي، بأن ما تشهده سيناء من إرهاب سيتوقف بمجرد رجوع مرسي إلى السلطة.
هناك جهات أخرى استثمرت في «داعش» وأشباهه، ولو بالتغاضي، والقائمة تشمل حتى دولاً أوروبية استعجلت حدوث تغيرات سياسية معينة في المنطقة، وغضت الطرف عما كان يبدو من تضخم سرطاني للتطرف المتصاعد الذي أفرز «داعش» في النهاية. ووفقاً لتقديرات المركز الدولي لدرس التطرف والعنف السياسي (ICSR) في كينغز كوليدج بلندن، فإن عدد من خرجوا من دول غرب أوروبا لينضموا إلى الجهاديين في سورية...
نقلا عن / الحياة
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة