عندما وقف أمام الجماهير الحاشدة في القمة الحكومية كان مختلفاً كعادته، هو ليس من طينة أولئك الذين يكررون كلامهم في كل محفل
عندما وقف أمام الجماهير الحاشدة في القمة الحكومية كان مختلفاً كعادته، هو ليس من طينة أولئك الذين يكررون كلامهم في كل محفل، تَعْلَمُ أن لديه شيئاً جديداً، تعلم أن في قادم العبارات مفاجأة مدوية أو تصريّحاً غير مسبوق، تعلم أنك عندما ستستمع له لن تكون بحاجة لكتب الإدارة وسفسطاتها أو محاضرات المنظّرين ومثالياتهم.
هو من يأتي بالفكرة الفذّة بأسلوب سهل ممتنع، ويضع إصبعه على الجروح الدفينة عندما ينشغل العالم بالجدال حول ظواهرها السطحية، إنه ببساطة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله!
القادة العظماء هم أولئك الذين لا يتحدثون عن أنفسهم ولكنهم مشغولون بنبش وإشعال القدرات الكامنة لدى الآخرين، هم أولئك الذين لا يكترثون للمسميات الرنانة والمناصب اللامعة، ولكنهم يهتمون فقط بخلق فارق كبير حيثما حلّوا.
هم أولئك الذين تساموا عن تلميع الذات وجعلوا ديدنهم تطوير قدرات من حولهم، هم الذين يتكلمون عن الفريق لا عن أنفسهم، عن الهدف العام لا عن المصلحة الشخصية، هم من يقضون أوقاتهم لمساعدة مَن حولهم للذهاب مِن حيث هم إلى حيث يطمحون، هم أولئك الذين وضعوا الآمال الكبيرة لتحقيقها عندما اكتفى غيرهم بالحُلُم بها فقط، هم من لا يطمح لخلق أتباع كُثُر خلفهم، ولكن يعملون لخلق قادة كُثُر مِن حولهم!
«استئناف الحضارة» كان سؤالاً استثار به الأنماط السائدة من التفكير، وأعاد تعريف دور مهم للقيادة غلب عليه التشويش وحوّر قيمته المتملّقون والوصوليون، فالقيادة الحقة ليس مطلوباً منها ولا ممكناً أيضاً أن تملك كل الأفكار.
ولكن المطلوب منها بالضرورة أن تسمح لكل الأفكار الرائعة أن تظهر على السطح لتتنفّس وأن تفسح المجال للفكرة الأفضل لكي تفوز وتنمو وينمو معها الجميع، كان «بو راشد» يعلم أنّ الأمور العظيمة تبدأ فعلياً من خلال تحريك الرواكد واستفزاز الواقع المتماوت بأسئلة عظيمة قادرة أن تضع مرآة صادقة لمراجعة الذات ومحاسبة النفس وقادرة على تحديد الفجوة بين الموجود وبين المراد دون مساحيق تجميل أو تطييب خواطر لا خانة له من الإعراب!
كان يقول بنبرته الواثقة وابتسامته الهادئة «قبل عشر سنوات وجّهت رسالة للقادة العرب: تغيّروا أو ستتغيّرون»، أراد أن يعي الجميع أن التغيير ليس استثناء بل هو الثابت دوماً، وأن من لا يتقبّل هذه الحقيقة ويعمل على تكييف نفسه مع متطلبات متغيّر الأحداث وتقلبات المستقبل فإنه سيجد نفسه مجبراً للانسياق دون اختيار مع أمواج التغيير الجارفة، إن الخوف يجب ألا يكون من الفشل.
ولكن يجب أن يكون فقط من التردّد في المحاولة، فالقادة لا يتركون للصُدف مكاناً لديهم ولا يوجد مساحات تقبّل لها في أجنداتهم، هم مشغولون دوماً بالتخطيط المستمر، فالمستقبل لا يصدمهم بمفاجآته، ولكنهم يُشكّلونه مسبقاً بحُسن التخطيط ووفرة الحماس واستمرارية الجُهد والمرونة في الانتقال بين السيناريوهات، وفقاً لمتغير قادم الأمور.
عندما خرج عنوان الجلسة الحوارية لسموّه بأنها «عشرة أسئلة وعشرة أجوبة» توقفت كثيراً عند تلك الرسالة الضمنية لهذا العنوان، فالقائد الذي لا يعرف الاستماع ولا يُسمَع سوى آرائه وهمومه وتساؤلاته فقط لن يمر وقت طويل حتى يجد نفسه محاطاً بأشخاص قد نسوا التفكير .
كما نسوا كيفية الحديث والنقاش، حتى في أجوبة سموّه لم تكن اللغة كما اعتدنا أن نسمع من تعميم ومصطلحات مطاطية، بل كانت مختصرة ودقيقة في توصيف المواضع التي أُتينا منها نحن العرب حتى سبقنا البقية، لم يكن باحثاً عن الخطأ لذات الخطأ، ولكن لكي يسهل علينا توصيف العلاج، فالتشخيص الخاطئ للعِلّة سينتج عنه وصفة علاج خاطئة لا شك لا تزيد الوضع إلا سوءاً.
من المختلف في طرح سموّه أنه لا يُقدّس الشعارات التي عفى عليها الزمن وأثبتت الأيام عدم جدواها وأصبح الجري وراءها إهدار للوقت والجهد وتفويت للمكاسب وللحاق بدول النخبة، لذا كان صريحاً عندما سُئل عن السوق العربية المشتركة.
فكان رده صريحاً وموقظاً للنائمين في عسل الخطابيات العربية، التي لا تحمل لا عسلاً و لا حتى خَلّاً عندما قال: «نصيحتي أن نتوقف عن السوق العربية المشتركة، هذا حلم قديم، نحن في 2017 العالم تغير وأصبح هناك سوق عالمي مشترك».
ثم أكمل بنبرة مستغربة قبل أن ينهيها بصوت حازم: «ما زال الوزراء العرب يجتمعون ويتحدثون عن السوق العربية، أنا أقول لهم اتركوا خطابات السبعينيات والحلم القديم، من يريد أن يفتح أسواقه فليفتحها على كل العالم، فلماذا يكتفي بجيرانه فقط، انفتحوا على العالم، الذي أصبح قرية صغيرة ومن انغلق على نفسه فهو الخاسر!».
لم يلجأ لطرح نماذج من قصص نجاح الغرب حتى لا يخرج بعض الفلاسفة ومتخصصو التثبيط وكسر الهمم بأنّ في تلك الدول تختلف المعطيات عن الدول العربية، بل كان طرحه عن دولة الإمارات، والتي خرج قبل القمة بأيام نائب رئيس البنك الدولي ليقول إنّ الإمارات واحدة من أسرع ثلاث دول على مستوى العالم في التطوّر والتنمية.
ولكنّ «بو راشد» لم يتفاخر بما أُنجز ولو فعل ذلك لكان من حقه، ولكن أراد أن يفهم الجميع أن النجاح رحلة غير منتهية وليس محطة نصل لها ثم نتوقف، كان مُلهماً ليس بما حققته حكومته من إنجازات مبهرة.
ولكن بطموح بلاده، الذي لا سقف له: «لدينا مشروع طموح لغزو المريخ، وما يسعدني ونفتخر به أنّ كل العاملين في المشروع هم من الشباب الإماراتي وأغلبهم في مقتبل العشرينيات ومن يشكك في ذلك، فنحن ندعوه للزيارة والتأكد بنفسه».
لا يمكن لمقال أن يفي حديث «بو راشد»، حفظه الله، حقه، ولكنه محاولة لتشجيع الجميع، لمراجعة تلك الكلمة المتفرّدة، واستلهام ما بها من نصائح وطروحات ملهمة، وقبل ذلك استلهام سموّ روح وعلوّ طموح من قالها.
نقلا عن / البيان
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة