ما يستدعي التأمل والتوقف هو غياب التكافؤ بين أمريكا والعراق من حيث الظروف والأوضاع والإمكانات وكذلك التباين بينهما إزاء الأهداف
الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والعراق لا يعد سابقة بين دولة عظمى لها قواعدها العسكرية وجنودها ونفوذها على أرض البلد الذي يمثل الطرف المقابل على طاولة الحوار، بل يمكن اعتباره مرحلة من مراحل ترتيبات مشتركة لتأطير طبيعة وشكل ومستقبل علاقاتهما والانتقال بها إلى طور التفاعل والشراكة الندية.
لكن ما يستدعي التأمل والتوقف هو غياب التكافؤ بين الجانبين من حيث الظروف والأوضاع الداخلية والإمكانات والقدرات وكذلك التباين بينهما، إزاء الأهداف التي يبتغي كل طرف تحقيقها من هذا الحوار، إضافة إلى عوامل خارجية لها تأثيرها المباشر على الجانبين المتحاورين.
تلك العوامل تتمثل بالدور الإيراني وبأهداف ومخططات طهران الرامية أولاً إلى فرض إطار عام على الجانب العراقي يتضمن تحديد مسارات الحوار مع الأمريكيين بما يضمن تحقيق مصالحها، وثانياً: توجيه رسائلها السياسية للجانب الأمريكي بأدوات عسكرية على الأراضي العراقية عبر استهداف بعض مواقعها أو قواعدها العسكرية في العراق بين الحين والآخر من قبل الميليشيات المنضوية تحت عباءتها .
الحكومة العراقية برئاسة الكاظمي، والتي وُلدت بتوافق أمريكي إيراني غير معلن، تواجه تحديات داخلية كبيرة منها السياسي ومنها الاقتصادي ومنها الأمن.
كما تجد نفسها في مواجهة تحديات خارجية ذات طابع سياسي عسكري متشابكة مع التعقيدات الداخلية وتتقاطع معها بشكل بالغ التأثير متمثلة في الوجود الإيراني وسعي طهران لفرض قرارها على الإرادة الوطنية العراقية بما يخدم مصالحها من جهة، ومتطلبات الجانب الأمريكي الأمنية والسياسية والاقتصادية التي تضمن مصالحه وتحافظ عليها وتحميها من جهة ثانية.
ويضاف إلى ذلك الانقسام الحاد في المواقف بين شركاء العملية السياسية في العراق إزاء الوجود الأمريكي، فماذا يريد العراق من الحوار ؟ وهل يمكن للحوار مع الجانب الأمريكي أن يجد طريقه إلى مبتغاه وسط هذه المعوقات ذات المنشأ الإيراني ؟ وكيف يمكن للحكومة العراقية أن توحّد مواقف أطراف العملية السياسية وتحشدها خلفها لدعم موقفها خلال مجريات الحوار ؟ وإلى أي مدى يمكن لرئيس الحكومة العراقية أن يدفع بالحوار مع الأمريكيين إلى ضفاف مطمْئنة للجانب العراقي، تمكّنه لاحقاً من مواجهة النفوذ الإيراني وتقليصه وتحُدّ من تدخلاته في الشؤون الداخلية ؟.
وكيف سيكون موقف القوى والكتل السياسية العراقية المطالبة بخروج القوات الأمريكية كاملاً من العراق مقابل شركائهم في العملية السياسية الرافضين لانسحاب القوات الأمريكية بسبب تهديدات داعش وإرهابه، والذين يعتقدون أن بقاء الأمريكيين يمكن أن يساعد على الحد من التغول الايراني؟.
الحكومة العراقية برئاسة الكاظمي، والتي وُلدت بتوافق أمريكي إيراني غير معلن، تواجه تحديات داخلية كبيرة.
من حيث المبدأ؛ الانقسام الحاصل بين القوى والكتل السياسية لايصب في مصلحة موقف الكاظمي وحكومته على طاولة الحوار مع الأمريكيين، كما أنه يعزز مواقف الجانب الإيراني الذي يجد نفسه أمام فرصة لتعميق الانقسام الداخلي على الساحة العراقية بما يضمن له تحقيق هدفين في آن معاً.
الهدف الأول: توجيه دفة الحوار بين العراق والولايات المتحدة وفقاً لمصالحها ومراميها عبر مؤيديها من الكتل الحزبية والسياسية المشاركة في حكومة الكاظمي، والضغط باتجاه تعزيز مواقفها داخل الطبقة السياسية العراقية عموماً.
أما الهدف الثاني :تصعيد المطالبات الشعبية والحزبية لخروج الأمريكيين من العراق للضغط على الجانب الأمريكي على أمل استدراجه لحوار مباشر معها لا يقتصر على الموضوع العراقي بل يتعداه إلى مجمل القضايا الثنائية والإقليمية وغيرها .
لا يمكن للحوار بين بغداد وواشنطن أن يثمر دون وضع إيران ودورها ونفوذها وتأثيرها في العراق على طاولة البحث والمكاشفة سعياً لقواسم مشتركة بين الطرفين المتحاورين، خاصة وأن الأمريكيين يشترطون دمج الميليشيات المسلحة ضمن تشكيلات القوات العراقية النظامية مقابل دعم الحكومة العراقية وبرامجها المتعددة، وهذا يعني بالنسبة لطهران خسارة استراتيجية لا تعوض ولا تقبل بفقدانها مهما كلفها الأمر من تبعات.
الولايات المتحدة لاعبٌ فاعلٌ ومؤثّر بشكل مباشر في مجمل عناصر المشهد العراقي؛ السياسي والأمني والعسكري والاقتصادي، وتدرك حجم النفوذ الإيراني فيه وتغلغلها في مفاصل العراق دولة ومجتمعاً ومؤسسات، وهي على معرفة عميقة بمكامن القوة والضعف فيه.
هذا يعني أن واشنطن إنما تسعى في طرحها وانخراطها بحوار "استراتيجي" مع بغداد إلى إضفاء طابع الندية في العلاقة الثنائية معها وبلورة قواسم مشتركة لعلاقات راسخة ومتناغمة في مختلف المجالات ومنها السياسي بالمقام الأول الذي يعني السعي لتأكيد استقلالية القرار العراقي وتحريره من الضغط والاستحواذ الإيراني عليه، وإتاحة الفرصة للحكومة العراقية لتثبيت حكم القانون وإيجاد حلول لمشاكل البلاد الاقتصادية والأمنية عبر آلية وطنية تفرض سلطة الدولة على الجميع.
وهذه الأهداف مجتمعة تمثل بالنسبة للولايات المتحدة أكثر الخطوات العملية نجاعة لأنها إنْ تحققت ضمن تفاهماتها مع بغداد فإنها تضمن بلوغ هدفين: أولهما تعميق التحالف مع العراق في جميع المستويات وضمان مصالحها، والهدف الثاني إنهاء التهديد والابتزاز الإيراني لها عبر حلفائها من الميليشيات العراقية سواء على الساحة العراقية أو خارجها.
الإدارة الأمريكية لا تخفي أهدافها من وراء الانخراط في حوار مباشر مع الحكومة العراقية ومنها الحد من النفوذ الإيراني بجميع أدواته وآلياته التنفيذية، والجانب العراقي ممثلاً بحكومة الكاظمي على وعي تام بمطالب الأمريكيين وهواجسهم، وهو يخوض غمار هذا الحوار مع واشنطن سعياً لتحقيق عدة أهداف منها تثبيت معادلة تقوم على التوازن في المصالح بين الجانبين، وطي صفحة الاستثمار السياسي والعسكري بين اللاعبين الدوليين والإقليميين على الساحة العراقية وعلى حساب سيادته واستقلاله واستقراره، وتوظيف نتائج الحوار لخدمة الدولة العراقية المنشودة، وإنهاء جميع المظاهر الفئوية والحزبية والطائفية المنتشرة في البلاد ودمجها ضمن الأطر والمؤسسات الرسمية .
يلتقي الجانبان العراقي والأمريكي عند كثير من التقاطعات والنقاط المشتركة لتأسيس أرضية صلبة لحوار "استراتيجي" يتناول جميع جوانب العلاقات بينهما، وكل منهما على دراية بما يسعى إليه الآخر من أهداف سواء كانت على المستوى الثنائي أو على صعيد ملفات المنطقة وتشابكها، ما يجعل إمكانية التفاهم أكثر.
طهران تنظر وتراقب وتتابع مجريات الحوار دون إبداء أي موقف إزاءه حتى الآن، وهي تعمل من أجل أن يحقق لها الحوار هدفها الذهبي بخروج الأمريكيين من العراق لتفرد هيمنتها وسيطرتها على العراق أكثر، وتنتقل بعدها لمناكفة الأمريكيين في مواقع أخرى من المنطقة.
واشنطن تدشن مرحلة هامة في علاقاتها مع بغداد عبر طاولة "حوار استراتيجي" ثنائي تعول على نتائجه لكي ترفع يد إيران عن العراق وتحافظ على مصالحها وتطوي صفحة التهديد والابتزاز الإيراني المباشر وغير المباشر؛ معادلة لا تخلو من تعقيدات تواجه الحكومة العراقية حيث تجد نفسها وسط تلاطم صراع المصالح بين طهران وواشنطن.
انعقاد أولى جولات الحوار كانت إشارة واضحة إلى أن الجانبين الأمريكي والعراقي أزاحا عقبة العقدة الإيرانية عن طريق محاولة التفاهم بينهما، وقدما مصالحهما المشتركة على ما عداها دون إغفال ما يمكن أن تضعه طهران من عوائق ومفخخات على مسار الحوار الاستراتيجي بينهما في أي لحظة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة