كل ذلك يدل على أن "الصدر" لا يعدو عن كونه عصا بيد إيران تضرب بها كل مناوئ لها على الصعيد الداخلي
تمتاز السياسة الإيرانية بثباتها في العمل على تصدير أزماتها وزعزعة استقرار محيطها لتظل متمتعة بالقوة التي تنشدها، وكل ذلك عن طريق تجنيد العملاء وزرع المليشيات التي تأتمر بأمرها، ولعل الساحة العراقية مثالاً واضحاً لمثل تلك الأدوات التي تستخدمها "طهران" لفرض نفوذها على القرار السياسي والداخلي العراقي، فبعد أن احترقت أوراق عملائها السابقين أمثال "نوري المالكي" و"الحكيم" ظهرت بوادر إرهاصات تيار شيعي وطني معتدل مال إليه "مقتدى الصدر" الذي بدا وكأنه عازم على إدارة الدفة السياسية وإعادة العراق إلى مساره العربي والوطني، إذ بدأ بزيارة للمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة عام 2017، ولكن سرعان ما تم قلب الطاولة وخلط الأوراق بعد اشتعال الشارع العراقي بكل أطيافه وطوائفه محارباً الفساد رافضاً أي شكل من أشكال التدخل الخارجي في الشأن العراقي، وعلى رأسها التدخلات الإيرانية. عاد "الصدر" إلى حضن المرشد ناسفاً كل المصالح الوطنية والشعارات البراقة التي كان يصدح بها ليل نهار بخطة إيرانية واضحة المعالم من خلال أسلوبين يمثلان السياسة الإيرانية أيما تمثيل وهما:
كل ذلك يدل على أن "الصدر" لا يعدو عن كونه عصا بيد إيران تضرب بها كل مناوئ لها على الصعيد الداخلي، وما تلك المبادرات "الصدرية" والتصريحات الملمحة إلى استعداده لتحويل مساره إلى التيار العربي والوطني إلا رسالة موجهة لإيران التي استأثرت بغيره
أولاً: تمويل المليشيات: وهي سياسة ثابتة في النهج الإيراني، وذلك بتجنيد أذرع لها ليس على شكل عملاء أو أفراد بل بزرع مليشيات طائفية تنفق عليها وعلى تمويلها وتسليحها وتدريبها، وبذل كل ما تستطيع حتى تصبح هذه المليشيات جزءاً من الحياة السياسية، وما "القبعات الزرقاء" الصدرية إلا نواة لمليشيا قادمة على الساحة العراقية قد تكون أشد تطرفاً وارتباطاً بإيران من غيرها على غرار المليشيات التي جندتها "إيران" في سوريا بعد اندلاع الصراع فيها، والذي بدأ بحراك شعبي وانتهى بحرب أهلية كانت المليشيات عنوانه الأبرز، وها هي اليوم تعيد الكرة في العراق الذي يعج بالمليشيات الطائفية المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني، ولكن يبدو أن هذه المرة تقربت "طهران" من "الصدر" الذي شعر بفقدان سطوته السلطوية بعد صعود المليشيات، مثل "الحشد الشعبي" إلى سدة القرار السياسي والميداني في العراق، فقرر التغريد خارج سربها، فتبدو هذه الخطوة صفقة عقدها "الصدر" مع "المرشد" الذي يعلم جيداً استعداده لبيع ولائه ومصلحة العراق مقابل مكاسب سلطوية وإن كانت مؤقتة، فمن المعلوم أن "إيران" تبيع عملاءها بمجرد سقوط ورقتهم الشعبية، وليست أمثلة "المالكي" و"الحكيم" عن "الصدر" ببعيدة، وهما اللذان لفظهما الشعب العراقي غير آسفٍ على ما ألحقاه به من هدر المال العراقي، وتحويل القرار السياسي الوطني إلى قرار مرتهن بأوامر زعماء المليشيات وقادة الحرس الثوري، ولكن الظاهر أن "مقتدى" قد اقتدى بهما واختار العمالة على الوطنية، واستبدل الغطاء الشعبي الذي يخلّد قادته ببيت العنكبوت المرتبط به بشرنقة العمالة، البيت الذي يقتل عملاءه فور انتهاء دورهم ليحيلهم إلى صفحات التاريخ السوداء.
ثانياً: سياسة ربط المصير: دائماً توازي "طهران" في تجنيد عملائها بين أمرين لا يلتقيان مهما امتدا الأمر، الأول تأسيس المليشيا المرتبطة بقرار حرسها الثوري ومرشدها على مستوى العناصر كافة، والأمر الثاني ربط هذه المليشيا بقيادة دينية محلية تضفي عليها القداسة طالما هي تسير بأمر "إيران"، ولكن ما إن تحاول هذه القيادة حرف مسار هذه المليشيا وتحويلها إلى الارتباط بها فقط، فإن هذه المليشيا مستعدة للانقلاب عليها في أية لحظة واغتيالها وتشييعها بصفة (شهيد) أو بتحويلها إلى الهامش بمجرد فقدانها للأوراق المطلوبة لتمرير السياسة الإيرانية، الهامش الذي يسع الكثير من هؤلاء، فبعد أن فقد "المالكي" و"الحكيم" تلك الأوراق لم يعد لهما أي صوت أو وجود على الساحة العراقية، سواء الشعبية أو السياسية، الأمر الذي يدفع عملاء إيران إلى التذلل وبذل كل ما يملكون من خسة وعمالة في سبيل صعودهم ودعمهم وزيادة نصيبهم من المكاسب في النفوذ والمال والسلطة، وهذا ما يفسر قدرة "الصدر" على تجنيد المليشيات والحملات الإعلامية التي تصاعدت في الآونة الأخيرة فيما لا يدع مجالاً للشك أنه اختار العمالة على الوطنية، وإن حاول اليوم تعمية الأمر بتسويقه على أنه مجرد حملات تطوعية وذاتية ومجرد مبادرات شعبية مناهضة لخراب البلاد والحرص على تأمين المتظاهرين، والحيلولة دون اندلاع المواجهات المباشرة التي من المتوقع أن هذه المجموعات هي التي ستبدأها لتسوغ فيما بعد اضطرارها للتسلح والظهور إلى العلن على شكل مليشيا مسلحة، فتدخل إيران على الخط بتمويلها بحجة الارتباط الديني وتحويل "الصدر" إلى ذلك الزعيم المرتبط بالمصير مع "إيران" .
كل ذلك يدل على أن "الصدر" لا يعدو كونه عصا بيد إيران تضرب بها كل مناوئ لها على الصعيد الداخلي، وما تلك المبادرات "الصدرية" والتصريحات الملمحة إلى استعداده لتحويل مساره إلى التيار العربي والوطني إلا رسالة موجهة لإيران التي استأثرت بغيره باعتمادها على مليشيات "الحشد" والقادة الميدانيين المرتبطين برجلها "قاسم سليماني" الذي اغتالته الولايات المتحدة مؤخراً، لتأتيه الجزرة الإيرانية بإعادة تسويقه وإنشاء مليشيا خاصة به تأتمر بأمره المرتهن بأمر "المرشد"، فيبدو من ذلك كله أن "الصدر" ليس معترضاً على العمالة إنما كان محتجاً على أسلوبها وإعادتها إلى الارتباط بالمرشد من خلال رجال الدين كما كانت سابقاً لا بالحرس الثوري عن طريق قادة عسكريين كما سار بها "سليماني"، لتعود بذلك العصا الصدرية إلى اليد الإيرانية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة