مظاهرات غضب في إيران منذ ثلاثة أيام بسبب غلاء الأسعار وقوات الأمن تستخدم العنف لإجهاضها.
تجارب الماضي القريب في الشرق الأوسط علّمتنا أنه من السذاجة توقّع حدوث التغيير السياسي لمجرد أن الشارع أعلن رفضه ممارسات نظام شمولي – أمني. وفي غير حالة، قبل ما عُرف بـ«الربيع العربي» وبعده، لم تستطع عين الشعب أن تقاوم مخرز القمع الدموي الذي أتقنت أنظمة من هذا النوع استخدامه، حيث تدعو الحاجة.
على امتداد المنطقة لم تتردّد طُغم الشمولية الأمنية في مواجهة الانتفاضات الشعبية بالحديد والنار... وأحياناً بالسلاح الكيماوي. ومع أن هناك من «ينزّه» نظام الملالي في طهران –بزعم «ديمقراطيته»– عن «الانحدار» إلى مستوى ممارسات معمر القذافي في ليبيا وبشار الأسد في سوريا والحوثيين في اليمن، فإن التاريخ، بعيده وقريبه، يثبت العكس؛ إذ إن القمع العنيف كان سِمة من سِمات الممارسة السياسية في إيران، تماماً مثل الاغتيالات والانقلابات و«الهندسة الديمغرافية» وانتفاضات الأقليات المهمّشة والمقموعة.
لا جديد في أن تنتفض إيران ضد حاكميها، لكن ما هو غير مسبوق منذ «الثورة الخمينية» عام 1979 هو أن «الشرعية» المذهبية التي ادّعتها الحركة الخمينية لنفسها، وتستّرت بها على أطماعها القومية ومشروعها الإقليمي، سقطت في عاصمتَي «الخمينية» مشهد وقُم.
لقد أسهمت الظواهر والممارسات المصبوغة بالعنف والدم، وهي كثيرة، في صوغ الشخصية السياسية الإيرانية المعاصرة، وعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن الإشارة إلى نقل الصفويين (الترك أصلاً) عاصمة دولتهم من قزوين إلى أصفهان كي يسهل الدفاع عنها في وجه الخطر التركي العثماني، وكذلك النقل القسري لقبائل تركية، كالقاشقائي والأفشار إلى قلب إيران وزرعها وسط الإقاليم الفارسية لتشتيت هذه القبائل ومحاصرتها واحتواء خطرها.
ومنها أيضاً الاغتيالات الممنهجة من عصر الحشّاشين (أواخر القرن الحادي عشر الميلادي) إلى تصفية القيادي الكردي عبد الرحمن قاسملو قبل عقود قليلة، مروراً باغتيال نادر شاه عام 1747، ونشوء حركات أسست لنفسها كيانات ذات هويات تنظيمية ومذهبية مثل «أوليغارشية» السربداران في خراسان خلال القرن الميلادي الرابع عشر.
وأيضاً وأيضاً، هناك انتفاضات الأقليات المقموعة عبر القرون والعقود... كالعرب والأكراد والبلوش والتركمان، إلى الغزوات والغزوات المضادة التي دَمّرت في الاتجاهين، وزرعت الأحقاد والفتن في كل زمان ومكان.
بناءً عليه، لا جديد في أن تنتفض إيران ضد حاكميها، لكن ما هو غير مسبوق منذ «الثورة الخمينية» عام 1979 هو أن «الشرعية» المذهبية التي ادّعتها الحركة الخمينية لنفسها، وتستّرت بها على أطماعها القومية ومشروعها الإقليمي، سقطت في عاصمتَي «الخمينية» مشهد وقُم.
الهتافات والشعارات التي رُفعت تحديداً في المدينتين الشيعيتين «المقدّستين» في إيران تسحبان عن وجه النظام الخميني وأداة سلطته الحقيقية، أي الحرس الثوري، آخر أقنعة «شرعية» زائفة سبق لها أن تجاوزت منذ 1979 كل اعتبارات الوفاق الداخلي وحسن الجوار الإقليمي.
خلال السنوات الأولى للثورة، عندما بدأت الثورة تأكل أبناءها، مخوّنة قادتها، ومصدّرة مشكلاتها وأوهامها، سقطت انطباعات عديدة... غير أن ثمة مَن فضّل تجاهل الخوض في جميع العوامل التي فجّرت الحرب الإيرانية – العراقية الأولى.
كثيرون، يومذاك، أنحوا باللائمة على نظام عراقي تسلّطي صبر طويلاً على نظام الشاه الذي حلم بأن يصبح «شرطي الخليج» والشريك الإقليمي للغرب في «الحرب الباردة» لكنه رفض أن يصبر على «ثورة» ترفع شعارات تحرير فلسطين.
وكثيرون أيضاً فضّلوا أن يُغفلوا المعنى العميق لمفهوم «تصدير الثورة» عند الحركة الخمينية، وزعمها احتكار «الإسلام الحقيقي» من تأسيس لفتن مدمرة على مستوى العالم الإسلامي كله، وليس فقط المنطقة العربية.
ثم، هناك مَن رفضوا التنبه إلى محاولة الخمينية الاستحواذ الحصري على قضية فلسطين، وإدراك مضامينها، مع أن فضيحة «إيران كونترا» كانت كفيلة بتنبيه مَن صدّق هتافات «الموت لأميركا والموت لإسرائيل»، إلى أن لإيران الخمينية غايات أخرى، وهذه الغايات انكشفت لاحقاً، داخل العراق وسوريا ولبنان واليمن، وكذلك في الساحة الفلسطينية، حيث جرى استغلال الخلاف السياسي الفلسطيني – الفلسطيني، للإجهاز على وحدة القرار والصف.
باسم التصدّي لتسلط صدام حسين، أسّست طهران في العراق مليشيات ما صار لاحقاً «الحشد الشعبي» على نسق الحرس الثوري لتغدو السلطة الفعلية في البلاد، وقبل ذلك، في لبنان، بحجة «مقاومة» الاحتلال الإسرائيلي و«تحرير» الجنوب، استثنيَت مليشيا «حزب الله» من قرار نزع سلاح المليشيات التي خاضت الحرب اللبنانية (1975 - 1990)... وها هي اليوم تتحكم بمفاصل السلطة الفعلية، لا بل وتوكل إليها طهران مهمات التدخل باسمها خارج حدود لبنان، كما حدث ويحدث في سوريا، واللافت هنا، أنه بينما احتضنت طهران ومعها «دمشق آل الأسد» فصائلَ «الإسلام السياسي السنّي» الفلسطينية واستغلتها لتقسيم الساحة الفلسطينية، فإنها جعلت من قوى «الإسلام السياسي السنّي» السورية نفسها ذريعة لضرب الثورة الشعبية السلمية السورية وتهجير ملايين السوريين، خدمةً للمشروع الإيراني في المنطقة.
ولم تتوقّف أحلام هذا المشروع عند حدود «الهلال الخصيب» واصلاً إيران بالبحر المتوسط، بل تضخّمت... ليغدو هلالاً أكبر يشمل البحرين وشرقي شبه الجزيرة العربية، وصولاً إلى اليمن عبر الحركة الحوثية.
ولكن في السياسة، كما في التجارة، كل شيء له ثمن. وكان لا بد للنظام الخميني، الذي تحوّل تدريجياً إلى نظام أمني - مالي يلعب فيه الحرس الثوري دوراً محورياً، أن يؤمِّن الموارد المالية اللازمة لمشروعه التوسعي التدميري. ومن ثم، كان لا بد أن تُحرَم فئات شعبية من نصيبها من هذه الموارد المصروفة على الحلم النووي والاحتلالات التوسّعية.
هذه الفئات الشعبية كانت الضحية التي تاجر النظام بها طويلاً، واستخدمها وقوداً في حروبه، وشوّه هويتها وثقافتها، وصادر مستقبلها وأحلامها.
مخططو النظام وحرسه الثوري، وأبواق «اللوبي» الذي أسّس في العواصم الغربية - ولا سيما في واشنطن - تحدثوا مراراً عن أن في صميم مصلحة إيران خوض معارك صعودها كقوة إقليمية وعالمية خارج أراضيها، وقال بعضهم إن التقاعس عن الهيمنة على بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء سيعني مواجهة إيران أعداءها داخل مدنها.
ولكن السواد الأعظم من الشعب الإيراني أناس عاديون تؤرّقهم همومهم اليومية. إنهم يريدون أن يعيشوا بكرامة، وأن يضمنوا رزق عائلاتهم وتأمينها من غوائل الفقر والجوع والمرض، وهؤلاء لا يقاسِمون بالضرورة «استراتيجيي» النظام وعملاءه مشاريعهم القاتلة الباهظة الكلفة.
اختصاراً... الشعب الإيراني يستحق نظاماً آخر!
نقلاً عن " الشرق الأوسط "
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة