لم تتلق إيران ضربة موجعة بعد حربها مع العراق عام 1988 مثل ضربة اغتيال قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني.
حيث فتح ذلك الأمر الباب واسعا أمام سلسلة طويلة من المتغيرات، التي أثرت بشكل مباشر على إيران، وكذلك نفوذ وقوة المليشيات التابعة لها، سواء داخل إيران أو في جميع البلاد التي أصبحت تحت سيطرة مليشياتها.
بداية، فإن اغتيال سليماني وجّه ضربة مباشرة لمشروع إيران التوسعي في العراق، وهي التي لها تأثير كبير على الساسة العراقيين التابعين للأحزاب الطائفية، التي تشكلت في طهران، وكان سليماني يمسك بخيوط اللعبة السياسية في العراق على جميع النواحي سياسيا وعسكريا وحتى اقتصاديا، واليوم يبدو أن المليشيات الموالية لإيران لا تزال تعيش في إطار سلسلة طويلة من التداعي، كان آخرها خسارتها الانتخابات البرلمانية الأخيرة في العراق.
ولا تتوقف إشكالات المليشيات عند حدود خسارة مقاعدها البرلمانية فحسب، بل يبدو أن حجج استمرار سلاحها باتت قليلة هي الأخرى، وتحديداً بعد انسحاب القوات الأمريكية، وهو الأمر الذي يجعل تلك المليشيات أمام تحدٍّ كبير جداً بما يتعلق بوجودها خلال الفترة المقبلة، ويبدو أن مقتل "المهندس" مع "سليماني" أثر في "تحفيز الصراعات البينية بين قادة المليشيات على محاولة ملء ذلك الفراغ"، حيث إن علم النفس السياسي يقول إن "غياب ضابط لسلوك وحراك المليشيات السياسي، يؤدي إلى توسع الصراعات"، وقد بدا ذلك واضحا في الانتخابات الأخيرة، حيث "تنافست المليشيات في ما بينها على دوائر نفوذها، ما جعل كلاً منها يُسقط الآخر، وهي التي استشعرت التداعي لذلك الزلزال وتحاول اليوم اختزال كل مطالبها في مفاوضات تشكيل الحكومة المقبلة بإعادة السيطرة على الحشد الشعبي".
بمعنى آخر، فإن المرحلة الحالية في العراق تشهد انحساراً كبيراً لهيمنة المليشيات الولائية، خصوصاً بعد خسارتها الانتخابات الأخيرة، ذلك أن "شغور منصبي سليماني والمهندس زعزع بشكل ملحوظ منظومة المليشيات، وهي تحاول العودة لعنوان (الحشد) كمساحة تمكنها من استمرار نوع من نفوذها في المرحلة المقبلة".
ويمكن اختصار ما سبق في القول بأن "خطورة ملف المليشيات في العراق تكمن في ارتباطه المباشر بالملف الإيراني وحوارات الاتفاق النووي، لذلك فإنها ستبقى ورقة تستخدمها طهران للضغط والنفوذ، سواء أعيد العمل بالاتفاق النووي، أو في حال فشلت تلك المباحثات".
يمكن القول إن إيران اليوم تأخرت سياستها العدوانية في المنطقة لأشهر عديدة بعد اغتيال سليماني، ذلك أن العملية غيرت سياسة مواجهة أمريكا لإيران، وأعلنت واشنطن من خلالها أنها تريد إنهاء سياسة طهران في المنطقة من خلال ضرب رأس حربتها في المنطقة، وأن قادة مليشياتها ليسوا بمأمن من النيران الأمريكية، ذلك أن اغتيال سليماني سبب ارتباكا شديدا، لأن خامئني كان يعتمد عليه ويكلفه بتنفيذ سياسات إيران في المنطقة، وهو الذي كان يخطط لمهاجمة الدبلوماسيين الأمريكيين وأفراد الخدمة العسكرية في العراق وفي أنحاء المنطقة.
أيضا، فيما يتعلق بالبرنامج النووي، فقد كان لذلك الاغتيال الأثر الواضح، فقد أعلنت إيران بعد فترة وجيزة من مقتل سليماني أنها تتخذ خطوة خامسة خارج إطار "خطة العمل الشاملة المشتركة".
وبخلاف الخطوات الأربع السابقة على تلك الخطوة، والتي تضمنت تغييرات ملموسة مثل إعادة تخصيب اليورانيوم في منشأة "فوردو"، فإن هذه الخطوة الخامسة لا علاقة لها بأي آلية إنفاذ ملموسة.
وبدلاً من ذلك، أصدرت إيران تصريحاً عمومياً قالت فيه إنها لم تعد تعتبر نفسها مقيّدة بأي شرط في أنشطة تخصيب اليورانيوم -وقد كان كل ذلك قبل انتخاب الرئيس بايدن- الذي لم تستطيع إيران حتى الآن إقناعه برفع سياسة "الضغوط القصوى"، والتي عبر فرض عقوبات اقتصادية مشددة اعتمدها الرئيس ترامب عقب انسحابه من الاتفاق النووي الدولي مع إيران، وهي التي أدت إلى الحاق أضرار اقتصادية كبيرة بإيران، ولكن هذا "النجاح" الاقتصادي لم يترجم إلى نجاح سياسي، بمعنى إرغام إيران على العودة إلى طاولة المفاوضات لبحث العقوبات، وكذلك سبل تخفيفها أو إلغائها مقابل تنازلات سياسية إقليمية.
اليوم وبعد عامين من ذلك الاغتيال، صحيح أن لإيران خياراتٍ للدخول في مواجهات مع الولايات المتحدة عبر وكلائها وعملائها في المنطقة، ولكن المواجهة الراهنة بين الطرفين مستحيلة، لكونها إن حصلت فستأتي في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد الإيراني الآثار العميقة للعقوبات الأمريكية ضد قطاعاته المحورية من النفط إلى المصارف، كما أنها تأتي وسط التظاهرات الشعبية ضد السياسات الاقتصادية والمالية ورفع الأسعار.
خلاصة القول، فإن إيران اليوم وبعد عامين من اغتيال سليماني بدأ نفوذها بالانحسار على جبهات عديدة، وقد ساعد في ذلك عوامل أخرى كما نرى بوضوح في الجانب العراقي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة