الانتخابات الأخيرة التي جرت في العراق في 10 أكتوبر 2021 قلبت الأمور رأسًا على عقب، وجعلت بعض القوى الخاسرة تفكر في وجودها واستمراريتها أو مغادرتها المشهد السياسي نهائيًا.
سادت هذه الأوساط ارتباكات عديدة في مواقعها التي تبوأتها من خلال الضغوطات أو المخادعة أو شراء المناصب الحكومية.
لذلك عصفت هذه الانتخابات بالمسار السياسي منذ 2003، إذ بدا العد التنازلي للأحزاب المرتهنة للقوى الإقليمية الخارجية، وخاصة على الصعيد الاستراتيجي بعيد المدى، فقد تزعزع البرلمان الذي يفترض أن يعبر عن إرادة الأمة العراقية.
ويبدو أن الوعي واليقظة تسربا إلى أذهان الناخبين العراقيين، فأعادوا حساباتهم من جديد. ما يعني ظهور قوى جديدة تطالب بالإصلاح والتغيير، ما أثار القوى التقليدية التي كانت تمسك بالمناصب الحكومية من وراء الكواليس. وتعتبر نتائج الانتخابات الحالية بمثابة المطرقة التي كسرت كتلة الجمود التي هيمنت على السياسة العراقية.
من أهم نتائج هذه الانتخابات خسارة الأحزاب والفصائل الموالية لإيران، والتي تسيَّدت المناصب لسنوات طويلة، وكانت تحلم بأنها ستبقى في سُدّة الحكم إلى ما لا نهاية.
وينطبق ذلك على كل الكتل السياسية، وهم شركاء في الفساد. وهذه النتائج أصابتها بالصدمة والذهول لأنها لم تكن متوقعة.
وبرزت بعض القوى السياسية التي أيدت الاحتجاجات الشعبية، وأصبح لها دورٌ جديد في الانتخابات الجديدة. وربما سيكون لها دور في صياغة الحكومة المقبلة، لأن موضوع الاحتجاجات لم يكن سهلًا بالنسبة للجميع.
وأدت الانتخابات الجديدة إلى ظهور أحزاب سياسية شيعية كانت في الظل، باستثناء كتلة المالكي وكتلة الأكراد.. وشهدت المليشيات المتحكمة خسارة كبيرة، لكنها تلح في السيطرة على زمام الأمور بقوة السلاح المنفلت غير الشرعي.
ولعل أهم ما حدث في هذه الانتخابات أنها زادت الوعي الاجتماعي لدى الناخب العراقي، وبدأت القوى الخاسرة تحسب ألف حساب لوعيه ويقظته.
وقرار المحكمة الاتحادية بالمصادقة على نتائج الانتخابات وجَّه ضربة قاصمة للقوى الموالية لإيران، وفتح الطريق أمام قوى أخرى كانت مهمشة لتأخذ دورها في اللعبة السياسية.
وعلى الرغم من فوز كتلة مقتدى الصدر فإن مواقفها لا تزال غير واضحة بشأن مستقبل العملية السياسية والتحالفات التي من الممكن عقدها مع القوى الأخرى، بسبب معارضة معظم الكتل السياسية لها، ليس انطلاقًا من المبادئ، بل لعجزها عن منافستها، لذا تتراوح الرؤية السياسية بين خيارين لا ثالث لهما:
الأغلبية الوطنية أو التوافقية، ويخضع المفهومان إلى مدى المرونة في تطبيقهما.
وفي الحالتين، هناك تحديات كبيرة تقف عائقًا أمام تنفيذهما على أرض الواقع العراقي المتأزم.
أفرز الواقع الانتخابي تحالفات جديدة وتوارت تحالفات قديمة، وهي في الأساس تسعى إلى دعم الحكومة التوافقية لكي يكون لها موطئ قدم فيها.
وتدرك كتلة مقتدى الصدر أنه لا بد من عقد تحالفات مع الأكراد لكي تستمر في الحكم، وتواجه القوى المعارضة لها من الأحزاب الشيعية.
ولا تزال جدلية تشكيل الحكومة المقبلة تُلقي بظلالها على الجميع من الأحزاب الخاسرة التي قامت بالتظاهرات والاحتجاجات ضد نتائج الانتخابات، لكن توقعاتها باءت بالفشل الذريع، وهي تبحث عن مكان لها في التشكيلة الجديدة التي سيترأسها التيار الصدري الفائز بأعلى المقاعد النيابية، والحائر بين انتهاج الغالبية الوطنية أو التوافقية.
مما لا شك فيه، فالشراكة والتوافق أدتا إلى ضعف الحكومات التي تشكلت من خلال إعطاء المناصب الحكومية التنفيذية لأشخاص لا يتمتعون بكفاءة مهنية عالية، بل جاؤوا نتيجة إما للتوازنات السياسية وإما للمحاصصة الطائفية أو لشراء المناصب الحكومية.
فقد شهدت الأحزاب السياسية المدعومة من إيران تصدعًا كبيرًا إثر احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول، والتي أسقطت حكومة عادل عبد المهدي، وجاءت بحكومة مصطفى الكاظمي، التي وعدت بالانتخابات المبكرة التي بددت كثيرا من الآمال لدى بعض القوى السياسية المرتبطة بإيران.
إن تجربة الغالبية الوطنية ليست جديدة على الواقع السياسي، فقد تم ذلك في 2018 من خلال تحالف كتلة البناء وكتلة الإصلاح، بما فيه الشيعة والسنة والأكراد، لكنه فشل في إيفائه بالوعود التي قطعها للشعب العراقي، كأن التاريخ يكرر نفسه.
ولا يعني ذلك أن اختيار "الغالبية الوطنية" يحقق النجاح المطلوب، وما يحلم به الشعب العراقي، لكنها ستنجح في منح الجميع المناصب الحكومية لإسكاتهم أو لإسكات الأحزاب السياسية التي ينتمون إليها.. لذلك فالحكومة التوافقية جزء من اللعبة السياسية التي درجت على ممارستها الأحزاب السياسية، والتشبث بحصصهم من كعكعة السلطة، بينما الأزمة مستمرة بلا حل أو علاج، لأن هذه التوافقية وحتى الأغلبية الوطنية لا تنتج سوى حكومات عاجزة، ما لم تستبدل بالمحاصصة الطائفية الانتماء العراقي.
وتظل هذه الحكومات تدور في ظلال شعاراتها الرنانة العاجزة، التي ملَّ منها الشعب العراقي، ولهذا السبب لا يمكن أن تقوم حكومة وطنية في ظل مثلث الفساد والمليشيات والطائفية.
لا تزال الحكومة الجديدة تُصنع في الكواليس بين القوى السياسية الفاعلة من أجل صياغة ملامحها المقبلة، وهي تسعى للحفاظ على مكوناتها من السقوط، لكن الدرس ليس في تشكيل الحكومة، بل في مواجهة التحديات التي تتجلى في مواجهة الفساد، وتفكيك المنظومة السياسية، وتحسين الخدمات المعيشية، ووقف التدخلات الأجنبية.
السؤال المطروح:
هل تستطيع الحكومة الجديدة، سواء كانت ذات أغلبية وطنية أو توافقية، مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، في القضاء على الفساد وتفكيك سيطرة المليشيات والارتهان إلى إيران؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة