إزاء المأزق الجديد تعاود طهران إطلاق تصريحاتها بإغلاق مضيق هرمز، ذلك الشريان الدولي الذي يمر منه الكثير من نفط الخليج العربي.
لقد عملت إيران طوال عقود ثورتها الأربعة المنصرمة على إطلاق التصريحات الصارخة، ورفع الشعارات الفاقعة، غير أن التجربة التاريخية علمتنا أن هذه وتلك جوفاء، لا خوف منها ولا طائل من ورائها سوى تعظيم الحرب النفسية في مواجهة الآخر، وغالبا ما يكون الآخر هو الولايات المتحدة الأمريكية.
درجت إيران على التصعيد إلى أبعد حد ومدى، عبر الوصول إلى سياسة حافة الهاوية، لكنها تاليا كانت تتراجع بعد تمنٍ مع خيبة أمل من عدم تغير مواقف واشنطن. وقد بدا من الواضح ومع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض أن التسهيلات والائتمانات التي قدمها لهم باراك أوباما لغرض في نفسه، لن يكون لها محل في قادم الأيام .
التصعيد الكلامي الإيراني، يفهمه الخبراء الأمريكيون جيدا، والذين يضيقون الخناق على الإيرانيين إلى أبعد حد ومدى، وينتظر الجميع ردة فعل إيران، وهل ستضع رقبتها داخل الحبل الأمريكي المتين أو سترتدع؟
لقد قضي الأمر، ففي الأول من مايو/ آيار، ستجد إيران نفسها في ورطة مضاعفة داخليا وخارجيا، لا سيما بعد أن أنهى الرئيس الأمريكي الإعفاءات الممنوحة لثماني دول لاستيراد النفط الإيراني، ذلك الذي طالته العقوبات الأمريكية مرة جديدة، يدرك الجميع إدراكا مؤكدا أن النفط ومردوداته هو عصب التجربة الإيرانية بكافة أبعادها السلطوية وسعيها للهيمنة، وتصديرها للإرهاب في الإقليم وحول العالم، وأن قطع شريان الحياة والتمويل هذا عن طهران يعني أنها ستضحى مشلولة ويبقى برنامجها لتصدير الثورة معطلا إلى حد الإلغاء .
وأول من سيتأثر بعودة العقوبات ورفع الإعفاءات هو الداخل الإيراني، والمواطن الذي لا ذنب له سوى أنه دعم توجها دوجمائيا قبل أربعة عقود، وإن تكشفت له الأبعاد الكارثية للتوجهات الدينية التي ينادي بها الملالي من على المنابر صباح مساء كل يوم .
كما ستعاني أيضاً المليشيات الإيرانية من جراء العجز المالي، وهذا ما تجلى بقوة في حال "حزب الله " في لبنان، الذي بدأ في وضع صناديق للتبرعات للحزب على قارعة الطرقات في شوارع المدن اللبنانية، من أجل تعويض الخسائر التي تعرض لها جراء الحظر الذي طال نفط إيران، وهو الحزب الذي يتلقى أكثر من سبعمائة مليون دولار سنويا من الإيرانيين.
يطبق الحصار على الإيرانيين بقوة قاهرة، ومن جديد يلجئون إلى أسلوب الحمائم والصقور، أي تنويع التصريحات ما بين الودعاء والعقلاء من جهة، والقساة المهددين بالويل وعظائم الأمور من جهة أخرى، وإن كان المشهد لم يعد ينطلي على أحد، فالكل يدرك أننا إزاء قيادة مؤدلجة لا تحيد عن رؤاها المطلقة قيد أنملة، ومن دون أن نغفل أن تحت جلد كل أيديولوجي عادة ما يوجد إرهابا فكريا.
إزاء المأزق الجديد تعاود طهران إطلاق تصريحاتها بإغلاق مضيق هرمز، ذلك الشريان الدولي الذي يمر منه الكثير من نفط الخليج العربي إلى بقية أرجاء العالم، والذي تنظم الملاحة الدولية فيه القوانين الأممية، لا البلطجة أو الغطرسة الإيرانية.
قبل إيام قليلة كان رئيس الأركان الإيراني "محمد باقري" يهدد بإغلاق مضيق هرمز، ومنع حاملات النفط الأجنبية من العبور، ما لم يعبر النفط الإيراني، لقد جاءت تصريحاته خلال لقائه مع قادة الشرطة الإيرانيين، حيث أضاف: "إذا لم يمر نفطنا فلا يجب أن يمر نفط الآخرين من مضيق هرمز أيضا".
يقدم باقر نفسه على أنه المسؤول عن أمن مضيق هرمز، بخلاف الواقع والشرائع الدولية، وهو يدرك تماما أن المجتمع الدولي لن يسمح له بالتمادي أكثر، فقضية سريان النفط مسألة تمس اقتصاديات الدول الكبرى، وهذه من القضايا الجوهرية التي لا يمكن التلاعب بها، ولدى الغرب استعدادات علنية وخفية للتدخل في تلك المنطقة من العالم، لا سيما بعد أزمة النفط العربي التي تبعت حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973.
لم يكن باقر وحده من لجأ إلى صيغة التهديد والوعيد، فقد رافقه في اللهجة عينها قائد البحرية في "الحرس الثوري" على رضا تنغسيري، الذي أشار إلى أن إيران ستغلق مضيق هرمز إذا ما حرمت من استخدامه.
أما الجانب الآخر من المناورات الدبلوماسية الإيرانية فقد بدت جلية في مقابلة وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف مع وكالة رويترز، التي جرت في بعثة بلاده في الأمم المتحدة في نيويورك، إذ أشار إلى أن السفن الأمريكية سيمكنها المرور "في حال حافظت واشنطن على قواعد الاشتباك، قواعد اللعبة، وعلى قنوات الاتصال، والبروتوكولات القائمة".
لكن الرجل الناعم الملمس ظريف، لم يوفر ورقة التهديد أيضا حين قال: "سنتحلى بالحكمة، لكن هذا لا يعني أنه إذا غيرت الولايات المتحدة قواعد اللعبة، أو غيرت قواعد الاشتباك فإنها ستتمكن من الإفلات".
هل ما تقدم يعد تهديدا إيرانيا صريحا للوجود الأمريكي في منطقة الخليج العربي؟
ليس سرا أن الإيرانيين يعلمون أماكن الوجود الأمريكي في المنطقة، لا سيما في العراق، وسوريا، وبقية أرجاء الخليج العربي، وأن بعض تلك النقاط ربما تستهدف الإيرانيين، لكن علامة الاستفهام الجوهرية: "هل يمكن للإيرانيين استهداف الأمريكيين برا أو بحرا أو جوا، في أي رقعة أو بقعة من المنطقة؟
في العاميين الماضيين، هدد الإيرانيون بالويل إن استمرت الهجمات الإسرائيلية على سوريا، واستهداف المواقع الإيرانية، وعلى الرغم من أن تل أبيب قد دكت الكثير من نقاط إيران المهمة في الداخل السوري، إلا أن تهديدات طهران لم تبارح نطاق وسياق الكلام البلاغي الشفاهي، ومن دون إطلاق رصاصة واحدة على إسرائيل، أو التجرؤ على إيذاء جندي أمريكي واحد في منطقة الخليج.
والمقطوع به أنه فيما يتعلق بحال الولايات المتحدة الأمريكية يبقى من السفه السياسي عدم الاعتقاد بأن هناك الكثير جدا من الخطط لمواجهة إيران، وفي المقدمة منها الطروحات العسكرية الحاضرة على مائدة النقاش، منذ سنوات طوال، في هذا السياق يمكن الجزم بأن الأمريكيين لا يتطلعون إلى الحل العسكري مع إيران على وجه السرعة، غير أنه عند نقاط المواجهة الساخنة لن يوفروا الحفاظ على حضورهم الأممي، ودعم نفوذهم حول كوكب الأرض بكافة ما يتوافر لهم من قوة نيران.
هنا تدرك إيران ما أشرنا إليه مرارا بشأن "ميزان الانتباه"، أي قوتها العسكرية وجيشها الذي يعود إلى سبعينيات القرن الماضي، في مقابل القوات العسكرية الأمريكية، الأولى من نوعها عبر التاريخ البشري، والتي فاقت في قوتها ومنعتها ما ملكته الإمبراطورية الرومانية ذات يوم .
التصعيد الكلامي الإيراني، يفهمه الخبراء الأمريكيون جيدا، الذين يضيقون الخناق على الإيرانيين إلى أبعد حد ومدى، وينتظر الجميع ردة فعل إيران، وهل ستضع رقبتها داخل الحبل الأمريكي المتين أو سترتدع؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة