ما يجب أن تستوعبه الحكومة العراقية أن إيران لا تزال أكبر تهديد أمني للعراق.. كما أن أُخوة المذهب ليست أغلى من أخوة الدم والأرض والمصير المشترك
تقصف الطائرات بلا هوادة وتشعل النيران في كل مكان ويُقتل البشر كالجرذان تارة، ويتم إطلاق التصريحات النارية وتبادل التهم أو التغزل في حكمة وهدوء وعقلانية الجانبين تارة أخرى في رقصة النقيضين.. بين الازدراء والإعجاب تناور إيران والولايات المتحدة الأميركية فيما يعد من الناحية السياسية مثالاً أكثر من رائع للكيفية التي تُدار بها عملية الحرب والسلام وإدارة المصالح القومية بين الأمم، فبينما تحارب أميركا جنباً إلى جنب مع إيران في العراق، فإنها تخوض حرب وكالة ضروساً ضدها في اليمن، وفي نهاية اليوم يتفهم كل طرف ماذا يتحتم على الطرف الثاني فعله لضمان تحقيق أهدافه، ولذلك يغض الغرب النظر عما تفعله الميليشيات الإيرانية في الأراضي العراقية المحررة من «داعش» وقتل وتهجير السكان السُنة في سياسة إحلال طائفي وعرقي!
وما يجب أن تستوعبه الحكومة العراقية أن إيران لا تزال أكبر تهديد أمني للعراق.. كما أن أُخوة المذهب ليست أغلى من أخوة الدم والأرض والمصير المشترك حتى وإن كان بعض القيادات العراقية ذا أصول فارسية، حيث يبدو الشارع الشيعي العراقي منقسماً بين مقته التاريخي للفرس وبين ما يدور في ذهنه من إرث مذهبي وأقوال وآراء ترددها بعض المراجع الشيعية في بلده بصورة معلنة أو مبطنه عن أهمية الوجود الإيراني في العراق لتمكين الطائفة الشيعية من السيطرة على زمام الأمور وكسر شوكة الخطر السُني على طموح إنشاء الأمة الشيعية الموحدة في المنطقة.
وليس من مصلحة طهران وجود عراق قوي موحد كجار لها، وليس من مصلحتها أيضاً وجود حكومة عراقية غير موالية لها، لا تقع تحت هيمنتها المباشرة، أو عدم تشكيل تكتل شيعي ضد تركيا والسعودية والعالم العربي. ولذلك هي لن تتوقف عن محاولة فرض سيطرتها على الحياة السياسية في لبنان كذلك وتحريك المياه الراكدة بين الأقليات الشيعية في الدول العربية وتشييع أكبر قدر من الشعوب العربية التي تعاني الفقر والبطالة، وشراء ذمم بعض الرؤساء والمنظومات السياسية العربية لمحاصرة العالم السُني وضربه من الداخل، ضمن سياسة فرّق تسد.
ومن جهة أخرى هناك بعض المصالح الأساسية الأخرى الإيرانية في العراق تتمحور حول الجانب الاقتصادي والبيئي والضغط على تركيا بخصوص بناء السدود على الفرات، وبالتالي تجفيف الأراضي، وتفاقم مشكلة التصحر في إيران، وحل معضلة الأمن المائي الإيراني، حيث لم تنقطع الإجراءات الإيرانية المنفردة بشأن قطع الروافد المائية (الدولية)، التي تغذي نهر دجلة في الأراضي العراقية منذ الخمسينات وما زالت، مما أدى إلى انخفاض المياه الواردة إلى الأراضي العراقية بنسبة 60 - 70%. والجدير بالذكر هنا أن أمن الأنهار الحدودية التي تنبع من إيران بين العراق وإيران كنهر «قره تو» أو نهر «الوند» ونهر «كنجان جم» ونهر «كارون»..إلخ، هو مسألة حيوية للجانب الإيراني، ولذلك مصالح إيران في العراق ليست مجرد مصادر طاقة ومذهب والحصول على الحصة الأكبر من السوق العراقي والتعاون في مجال النقل والطاقة والقلق حول مستقبل المقدسات الشيعية في العراق، حيث إن الحكومية الإيرانية هي حكومة «قومية» بالمقام الأول، ولن تتوقف عن مساعيها الرامية لتحويل الخليج العربي إلى خليج فارسي وفق مخططها الأكبر للسيطرة على المنطقة، وتحديد الفاصل بين أن تصبح إيران قوة إقليمية أحادية، أو مجرد قوة إقليمية، وشرعنة تدخلها في شؤون المنطقة سياسياً.
وهناك صراع خفي في العراق بين الولايات المتحدة وإيران حول الحكومة المركزية العراقية، فأميركا تريد حكومة علمانية موالية لها، وإيران تريد حكومة طائفية، وتسعى لتهميش السُنة، وكبت المصالح الوطنية العراقية، وجعل خريطة وبوصلة التوجه السياسي العراقي أصولية مذهبية، ولهذا ستستمر مكائد طهران التي تهدف إلى إجبار بغداد كي تقع مباشرة تحت نفوذها، والمضي قدماً في حلم «الهلال الشيعي» بأي ثمن.
ويبدو لي أن الوقت قد حان للضغط من قبل دول التحالف العربي على الولايات المتحدة لبدء حوار شامل وجاد مع إيران وجميع الأطراف حول العراق بعد أن بلغت الفوضى ذروتها جراء التدخل متعدد الاتجاهات وخاصة من الجانب الإيراني عسكرياً وسياسياً في احتلال مؤقت للبرلمان وإضعاف الاقتصاد العراقي، وتسريع تفكك البلاد، على أن يشارك في تلك المحادثات الجادة آية الله السيستاني، حتى لا تؤدي الأزمة إلى انهيار النظام السياسي العراقي برمته، وضياع حق «عراقية» العراق بمعاول الطائفية والقومية العرقية وسطوة المصالح الأجنبية.
* نقلاً عن صحيفة الاتحاد
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة