الخراب قد يعم. والحروب قد تدمر من العمران كل ما تدمر، بما في ذلك العمران الاجتماعي، إلا أن الشعوب تعود لتنهض من جديد
الخراب قد يعم. والحروب قد تدمر من العمران كل ما تدمر، بما في ذلك العمران الاجتماعي، إلا أن الشعوب تعود لتنهض من جديد. انظر إلى كل دروس التاريخ، وسترى كيف نهضت أمم من أسفل قائمة الفقر والانهيار لتجد نفسها ترقى سلم التقدم وتحتل المكانة اللائقة بها. يستهلك الأمر وقتا، بطبيعة الحال. إلا أن النهوض يحصل في آخر المطاف. المسألة لا تتعلق بالضرورة بتوفر الموارد الطبيعية. تكفي الموارد البشرية بحد ذاتها، لكي تشكل أساسا للوقوف من جديد على قدمين ثابتتين.
ما هو مصلحة عامة، هو المصلحة. وما هو قانون هو القانون. وما هو أسس ومعايير لتحقيق التنمية هو الذي يتعين أن يغلب، حيث يفرض الواقع معالجاته لكل مشكلة، لا أن تُصبح المعالجات النظرية المسبقة، ولا التصورات الخرافية، ولا المصالح الخاصة، هي المشكلة.
اليابان وألمانيا مثالان ساطعان للخروج من ركام حروب كارثية، أحرقت الأخضر واليابس. ولكنهما ليسا الوحيدان. بلدان مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية وماليزيا، والصين نفسها، عثرت على الطريق. وبدأت الصعود من القاع، أو حتى من قاع القاع.
قوة الحياة هي التي تمهد اكتشاف السبل. واسترخاء قوى الضد، أو قل مثلا، العوائق والتدخلات والتأثرات الخارجية، تعود في النهاية لتضمحل، تاركة الفراغ من بعد الفراغ لكي تملأه "قوة الحياة".
كيف يمكن تعريف هذه القوة؟ إنها شيء يشبه علاقات الحاجات بالموارد والإمكانيات. لديك بحر مثلا، فتذهب لتصطاد. ولديك أرض فتزرعها، ولديك خبرات تحولها إلى وسائل إنتاج. فتنشأ بالتالي قوة تفرض نفسها. الأمر نفسه يحدث في الثقافة والسياسة وإدارة الدولة. اكتشاف وسائل جديدة للحياة الاقتصادية يملي بدوره اكتشاف وسائل جديدة في السلطة، والأدب، والفن.. هذه الوسائل برعم يأبى الموت. ولا يمكن انتزاعه من أغصان الوجود.
العكس تماما يحدث مع الأحزاب. إنها الشجرة التي تكنسها ريح الفشل والجمود العقائدي.. فلا تعود لتنهض من جديد.
لقد جربت أحزاب كثيرة في عالمنا العربي أن تكون قوة حياة، إلا أنها فشلت. وكان للأيديولوجيا أثر قاتل. فبما أنها رؤية ذات طبيعة مغلقة، تحتكر الحقيقة، وتملي نفسها على الواقع، فإنها سرعان ما تفسد لتفسد معها كل شيء: السلطة والاقتصاد والثقافة وكل شيء.
ما من منطقة في العالم عرفت ثلاث ثورات كبرى في أقل من عشر سنوات إلا هذه المنطقة. وكلها كانت ضد أحزاب سلطة؛ ضد أيديولوجيتها وثقافتها وتسلطها على مصائر البشر؛ ضد احتكارها للحقيقة وإملاء سلطانها على الواقع بالعنف والقهر والقوة.
ثارت تونس ومصر وسوريا واليمن ضد أحزاب وقيادات بدت وكأنها خالدة.. حتى إن بعضها لم يخجل من التصريح بأنه باق إلى الأبد.
ثم جاءت أحزاب الإخوان لتدلو بدلوها فزادت الخراب خرابا.. فعادت المنطقة لتنتفض ضدها وضد خياراتها الإرهابية التي مارستها لكي تفرض نفسها، هي الأخرى، إلى الأبد.
ولم يمض وقت طويل حتى انتفض العراق ولبنان واليمن وإيران على هيمنة الشق الصفوي من الإسلام السياسي.
هنا وهناك، فقد أصبحت الدعوة لتكليف حكومة تكنوقراط، بمثابة اعتراف معلن بفشل كل الأحزاب، وكل مشاريعها السياسية والطائفية، وكل أيديولوجياتها، وفساد خياراتها وقياداتها.
قوة الحياة هي التي نهضت لتقول لكل هذا الركام من الأحزاب إن أشجارها اليابسة لم تعد جديرة بالبقاء. وإن التغيير المطلوب هو تغيير عليها ومنها.
البحث عن "وطنية جامعة"، وعن أوطان تسود فيها قيم العدل والمساواة والحرية، صار هو المفتاح. المسألة أبعد بكثير من مجرد السعي لمكافحة أمراض الفقر والبطالة والفساد. المسألة إنما تتعلق بإعادة بناء العلاقة بين الحاجات والموارد والإمكانيات على أسس نظام غير مأخوذ بأفكار ولا نظريات ولا تصورات مسبقة.
ما هو مصلحة عامة، هو المصلحة. وما هو قانون هو القانون. وما هو أسس ومعايير لتحقيق التنمية هو الذي يتعين أن يغلب، حيث يفرض الواقع معالجاته لكل مشكلة، لا أن تُصبح المعالجات النظرية المسبقة، ولا التصورات الخرافية، ولا المصالح الخاصة، هي المشكلة.
النهوض يتحقق إذا ما توفرت إرادة وطنية، وقيادة وطنية، تنتهي إليها علاقات الحاجات والموارد والإمكانيات، لكي تستنهض الفرص. وكل ما هو للناس لهم. لهم الخير، وعليهم العمل. وهذا برعم لا يبلى، وهو وحده القادر على التجدد إلى الأبد. انظر إلى كل أحزاب هذه المنطقة، وسترى بوضوح أنها انتحرت. وما بقي منها نحن من يدفع عن بقائه الثمن.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة