في المحصلة يتضح أن المنهج الخميني كان راصدا للحالة العربية بكل مكوناتها وبكل ثغراتها ونجح في التسرب الخفي إلى تجاويف العقل العربي.
إن عقيدة الجيوش التي أوقفت التمدد الإيراني في البلاد العربية جعلت حاملي الفكرة الخمينية يعيدون البحث عن أساليب تمكنهم من تصدير ثورتهم، وهنا أشير إلى الرسالة السرية للغاية التي وجهتها شورى الثورة الثقافية الإيرانية للمحافظين في الولايات الإيرانية والتي عُرفت "بالخطة الإيرانية الخمسينية".
في نص تلك الخطة يقولون: "إن لم نكن قادرين على تصدير ثورتنا إلى البلاد الإسلامية المجاورة، فلا شك أن ثقافة تلك البلاد سوف تهاجمنا وتنتصر علينا".
في المحصلة يتضح أن المنهج الخميني كان راصدا للحالة العربية بكل مكوناتها وبكل ثغراتها، ونجح بشكل كبير في التسرب الخفي إلى تجاويف العقل العربي ليبخ فيه سما غير قابل للتقادم، سما يستشري أكثر وأكثر حين يتقاتل الإخوة، وتراق الدماء بين أبناء الوطن الواحد
وهنا تتضح دلالة ما حدث بعد ذلك ويحدث الآن، وهو اعتمادهم على مبدأ الهجوم والمباغتة وأن المكان الذي يديرون فيه معاركهم دائما ما يكون خارج أراضيهم، وعلينا فعلا أن نعيد التدقيق في كل ما حدث في بلادنا العربية فهم يديرون معاركهم في لبنان والعراق والبحرين واليمن وسوريا.
بالإضافة إلى أن فاتورة الدماء التي تدفع دائما تكون عربية؛ لأن طرفي القتال في جميع معاركهم عرب، أي عرب يقاتلون عربا، ثم إن فكرة المباغتة أو التسرب الخفي كانت واضحة في كل ميلشيا تأسست، وفي كل حزب تكون، وفي كل طلقة سلاح أطلقت.
في مقطع آخر تقول تلك الخطة: "إنه وخلال اجتماعاتنا وبشبه إجماع المشاركين وأعضاء اللجان وضعنا خطة خمسينية تتكون من خمس مراحل ومدة كل مرحلة عشر سنوات، لنقوم بتصدير الثورة الإسلامية إلى جميع دول الجوار ونوحد الإسلام؛ لأن الخطر الذي يواجهنا من الحكام ذوي الأصول السنية أكبر بكثير من الخطر الذي يواجهنا من الغرب".
إعادة استدعاء هذه الخطة الخمسينية الخمينية الآن يأتي من منطلق شديد الأهمية وهو أننا في هذا العام 2019 تكون المرحلة الرابعة من هذه الخطة قد أوشكت على الانتهاء؛ لتبدأ بعدها شهور المرحلة الخامسة والأخيرة.
وبحسب عداد هذه الخطة من بداية الثورة الخمينية عام 1979، فإن المرحلة الأولى قد انتهت عام 1989 والثانية في عام 9919 والثالثة في 2009 والرابعة في 2019.
وملامح هذه المرحلة الرابعة التي أوشكت على الانتهاء تعتمد حسب ما جاء في تلك الوثيقة على نزع ثلاثة عوامل من البلاد العربية (الأمن والهدوء والاستقرار بشقيه السياسي والاقتصادي). وذلك عبر خلق مشاحنات بين العلماء والحكام، وبين الشعوب والحكام حتى تصبح هذه البلاد كسفينة وسط الطوفان على حد تعبير الوثيقة.
هذا يعيدنا إلى ما اعتمد عليه الخميني في تكريس خطته للغزو الفكري، فقد ركز على مرتكزين للتحرك ضد بلادنا الأول: هو اللعب على ورقة الشعوب، وثانيا: تصدير جميع غاياتهم عبر قناع الدين والأيديولوجية.
وهذا ينعكس بوضوح حتى على المسميات التي يطلقونها على الكيانات التي يتم تأسيسها في البلاد العربية مثل "حزب الله الذي تجده في لبنان، وفي العراق و"أنصار الله" في اليمن. ومع التجربة المرة اتضح لنا أن هذه الأحزاب التي تحمل اسم الله هي ليست لله وإنما من أجلهم هم.
أما البوابة الأخرى التي تسربوا عبرها إلى عقولنا فكانت امتطاء موجة الشعوب، فهم يقدمون مشاريعهم باعتبارها مشاريع من أجل الشعوب نفسها كما في الحشد الشعبي في العراق، وحتى في السودان حينما نجح الإسلاميون في انقلابهم 1989 نقل الترابي التجربة الإيرانية كاملة إلى السودان، فاستحدث ما عرف بمليشيات الظل، واستعار المدخل الخميني في مغازلة الشعوب وأطلق على تلك الكيانات "دفاع شعبي" و"شرطة شعبية" وهكذا.
ومن الواضح بعد هذا الشرح التأكيد على أنهم طيلة الوقت يسوقون مشاريعهم باعتبارها "من الله ومع الشعوب".
إن اللعب على وتر المقدس و"وتر الشعوب" لإخراج اللحن الذي يفرق وينزع الاستقرار من بلادنا العربية ظهر أيضا في منهج الخميني الواضح في التقرب من جماعات الإسلام السياسي في العالم العربي خصوصا "جماعة الإخوان في مصر". هذا التقرب الغريب بين نوعين من التطرف والتشدد مختلفين من الناحية العقائدية، فكل يرفض الآخر بل يكفره أحيانا.
الخميني في كتابة "الحكومة الإسلامية" -الذي طبع في بيروت عام 1970 ويحمل جميع ملامح ولاية الفقيه ورؤيته للشكل الذي ستكون عليه الدولة الإسلامية كما نفذها بالحرف فيما سمي بعد ذلك "بالجمهورية الإسلامية الإيرانية"- كان متطابقا في بعض النقاط مع سيد قطب خصوصا في فكرة "الحاكمية" -تعني الحاكمية، كما صورها "المودودي وسيد قطب، رفض الحكم بغير ما أنزل الله وحصر سلطة التشريع فيه- وهو تأثر وتقارب قديم، فالكتاب محصلة لمجموعة محاضرات ألقاها الخميني في حوزة النجف عام 1969، وهو العام نفسه الذي ترجم فيه على خامنئي كتاب "في ظلال القرآن" لسيد قطب. وظهر الإعجاب والشغف بسيد قطب في المقدمة التي كتبها "خامنئي" للكتاب.
لم يكن الاهتمام والغزل من الخميني ومن بعده الخامنئي بأفكار سيد قطب والإخوان غزلا تأثيريا بمعنى التطبيق الحرفي لما جاء عن الإخوان، وإنما غزل تحريكي بمعنى أنه يشجع تلك الأفكار لإنزالها على أرض الواقع في بلادنا العربية وليس لتطبيقها في بلاده هو.
فالحكاية الإخوانية الخمينية قديمة وضاربة الجذور حتى منذ ما قبل نجاح ثورته، فقد ذهب وفد من جماعة الإخوان إلى الخميني وهو في باريس قبل أن يعود إلى إيران، وباركوا له ثورته بل طلبوا منه أن يكون مرشدا لهم جميعا مقابل أن يعلن أن الخلاف بين الصحابة خلاف سياسي وليس ديني وهذا ما لم يعطيه لهم، وكان الإخوان أول من أعلنوا مباركتهم لثورة الخميني في جميع فروعهم في العالم، ولم يستطع رئيس إيراني أن يزور مصر طوال أربعة وثلاثين عاما منذ نجاح ثورتهم إلا حين تولى محمد مرسي الإخواني حكم مصر، حين زار محمود أحمدي نجاد مصر في فبراير عام 2013.
ولم يقف الأمر عند توطيد العلاقة الخمينية مع الإخوان بل انسحبت إلى بقية الجماعات المتطرفة الأخرى، والكل يعرف العلاقة التي ربطت إيران مع القاعدة، بل إن ورقة القاعدة كانت ضمن أوراق التفاوض بين الأمريكيين والإيرانيين في كثير من المحافل، خصوصا قيادات القاعدة الموقوفين في إيران التي تطالب أمريكا بشكل دائم تسليمهم من قبل إيران.
كما تتمثل العلاقة الخفية بين إيران أيضاً في أجهزتها مع داعش في العراق وفي سوريا، وهنا استحضر ما قاله: "عادل الجبير" حين كان يتولى وزرة الخارجية السعودية في أحد المحافل الدولية: لم يثبت أن ارتكبت داعش بكل عنفها واختلافها العقدي مع إيران حادثة واحدة في الداخل الإيراني أو حتى ضد مصالح إيران في الخارج.
في المحصلة يتضح أن المنهج الخميني كان راصدا للحالة العربية بكل مكوناتها وبكل ثغراتها، ونجح بشكل كبير في التسرب الخفي إلى تجاويف العقل العربي ليبخ فيه سما غير قابل للتقادم، سما يستشري أكثر وأكثر حين يتقاتل الإخوة وتراق الدماء بين أبناء الوطن الواحد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة