التومان "العملة المحلية" الإيرانية فقدت أكثر من 70٪ من قيمتها إزاء الدولار، ورجل الشارع يتجه إلى "الدولرة" بعدما فقد ثقته
أستطيع أن أؤكد - جازماً - أنه لا يوجد إنسان واحد قادر اليوم على معرفة حقيقة آثار احتجاجات الشعب الإيراني على نظام "الولي الفقيه"؟
الجميع، من المرشد الأعلى الإيراني إلى رئيس وحدة الملف الإيراني في الاستخبارات الأمريكية، لا يمكن أن يحسم مدى قوة النظام وتماسكه، وما مدى قوة حركات الاحتجاج.
أزمة النظام الإيراني أنه نظام مغلق على نفسه، الكلام في السياسة فيه ملء السمع والأبصار، لكن الشفافية فيه محدودة، وحقيقة الوقائع غير ظاهرة، والإعلام الداخلي فيه لا يلعب دوراً كاشفاً.
نحن نعرف عناصر القوة التقليدية في النظام، ونعرف قوة الحوزة الدينية، وسيطرة الحرس الثوري على مفاصل النظام والاقتصاد والأمن.
نحن نعرف أيضاً أن إيران التي تعتمد على تصدير النفط، انخفض إنتاجها - نتيجة العقوبات - من 4 ملايين برميل يومياً إلى ما بين 300 و350 ألف برميل، يتم تسويقها عبر وسائل غير مشروعة بالمخالفة لإجراءات المقاطعة.
ونحن نعرف أن "التومان" (العملة المحلية) فقدت أكثر من 70٪ من قيمتها إزاء الدولار، وأن رجل الشارع يتجه إلى "الدولرة" بعدما فقد ثقته في العملة المحلية، وأن البطالة وصلت إلى 40٪ وسط القوى العاملة من الشباب.
علمنا التاريخ، وهو خير معلم، أن مثل هذه الأنظمة حينما تواجه ضغوطاً خانقة من الداخل والخارج في آن واحد، تختار الصدام الدموي ضد عدو حقيقي أو وهمي بدلاً من القبول بالأمر الواقع واتباع سياسة مرنة عاقلة تقبل بمنطق التسويات الكبرى.
ونحن نعرف أن هناك تذمراً اجتماعياً من سطوة الحرس الثوري ورجال الدين والمحسوبين عليهما في إدارة المراكز الرئيسية في الدولة.
ونعرف أن الاقتصاد المأزوم يلقي بظلاله على امتدادات إيران في المنطقة، ما أدى إلى التأثير سلباً على الحلفاء في اليمن وسوريا والعراق ولبنان وغزة.
الاحتجاجات في المدن الإيرانية، من طهران إلى شيراز إلى أصفهان إلى الأهواز، ذات مطالب اجتماعية، انفجرت رفضاً واحتجاجاً مع قرار الحكومة رفع أسعار البنزين 300٪، لكنها في الحقيقة هي القشة التي قصمت ظهر البعير.
الانفجار قد يبدو اجتماعياً مطلبياً، لكنه في باطنه يحمل رفضاً للنظام.
في هذه المصادمات تم اقتحام خمسة سجون، وحرق 110 أقسام شرطة و2702 سيارة للأمن.
أدت هذه المصادمات إلى إلقاء القبض على ألف متظاهر، وحرق كثير من المباني والمنشآت الحكومية ومقار الحرس الثوري وتمزيق صور كبار الرموز السياسية والدينية في البلاد.
هذه المصادمات هي جزء مكمل لتظاهرات مماثلة عام 2017 تم قمعها بقوة من قبَل النظام.
ويبدو أن اثنين من المتظاهرين قد قُتلا برصاص أجهزة الأمن، وأن هناك توقعاً لسلسلة من الاستقالات التي سيتقدم بها نواب في البرلمان الإيراني احتجاجاً على قرار رفع أسعار البنزين وموقف السلطات المتعنت والراغب في فرضه بالقوة.
ولا يغيب عن الأذهان أن هذا القرار سبق أن حاولت الحكومة فرضه على الأسواق الإيرانية منذ 3 سنوات، وأدى إلى رفض جماهيري، ما أدى إلى إلغائه أو بالأصح تأجيله في حينه.
الآن، يأتي المتغير الرئيسي، وهو أن القرار لا يحظى بدعم من الرئيس روحاني والحكومة، لكنه يحظى بدعم صريح وعلني من المرشد الأعلى.
وجاء خطاب المرشد الأعلى الداعم للقرار، المهاجم للمحتجين، المتهم للمعارضين بالعمالة والتآمر على الثورة، ليضع المرشد - لأول مرة - في مواجهة الشارع الإيراني الثائر.
والنظرة المتعمقة لكيفية تعامل أي نظام مع المطالب الاجتماعية الأساسية في ظل اقتصادات مأزومة في وضع إقليمي خطر ونظام عالمي يعاني من السيولة السياسية المربكة للغاية، تُعلمناً درساً أساسياً، وهو: "لا تقف كحاكم -أبداً- ضد أوجاع الناس".
المثير للتعجب هو أن إيران التي تشكو من عدم القدرة على تصدير ملايين الأطنان من براميل إنتاجها اليومي من النفط التي تُعد أحد أهم 3 أكبر منتجي غاز في العالم تقوم بمضاعفة أسعار بيع البنزين 300٪.
للأمانة يجب أن نقول إن الطوق الحديدي الخانق على رقبة الاقتصاد الإيراني نتيجة العقوبات يجعل بدائل الحلول الاقتصادية لدى إيران محدودة.
الأمر الضاغط أيضاً على صانع القرار الإيراني أن أحد مطالب حركات الاحتجاج في المدن الإيرانية تطالب المرشد الأعلى بإيقاف هدر الملايين على مغامرات الحرس الثوري الخارجية في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وغزة.
إن نظام الولي الفقيه الذي نشأ عقب ثورة شعبية على الشاه محمد رضا بهلوي يواجه الآن أسوأ تحدياته منذ عام 1979.
طبيعة الأزمة هذه المرة أنها ليست محلية فحسب، أو خارجية فحسب، لكنها أزمة ضاغطة وخانقة من الداخل والخارج في آن واحد بشكل خانق.
الأمر الأساسي الذي نحذر منه هو: ماذا يفعل صانع القرار إذا وجد نفسه على حافة السقوط أو الانهيار؟
علمنا التاريخ، وهو خير معلم، أن مثل هذه الأنظمة حينما تواجه ضغوطاً خانقة من الداخل والخارج في آن واحد، تختار الصدام الدموي ضد عدو حقيقي أو وهمي بدلاً من القبول بالأمر الواقع واتباع سياسة مرنة عاقلة تقبل بمنطق التسويات الكبرى.
لذلك أحذر الأعزاء الذين يشعرون بفرحة غامرة بالاحتجاجات في الداخل الإيراني، إن ما ترونه بوادر خير عظيم قد يكون بدايات شرور مطلقة.
نقلاً عن "الوطن المصرية"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة