حاول نظام ولاية الفقيه أن يطرح للشعوب الإيرانية المقهورة خيارين لا ثالث لهما
نظام ولاية الفقيه الإيراني يسوّق نفسه إلى الخارج بماكينة إعلامية كبيرة وإعلاميين متنوعين لتلميعه بعناوين جميلة كالديمقراطية والحرية، وتصوير الحراك السياسي في إيران كأنّه صراع حقيقي وجوهري بين المحافظين والإصلاحيين، حتى توهم بعض العرب في الخارج أنّ الإصلاحيين جيدون ليبراليون منفتحون يؤمنون بالتعايش والتسامح والمحبة والعدالة والإنسانية، وأنّهم قريبون من العرب بعيدون عن ولاية الفقيه وطموحاتها التوسعية ومليشياتها المذهبية وفتنها الطائفية في المنطقة.
ويستدلون على التلميع بفترة "علي أكبر هاشمي رفسنجاني" رئيساً للجمهورية لدورتين (1989 - 1997) ودوره في إيقاف الحرب ضد العراق عام 1988 حين كان القائد العام للقوات المسلحة، وموافقته على قرار مجلس الأمن رقم 598، وانفتاحه على الغرب، وانفتاحه كذلك على العرب، وتحسّن العلاقات العربية – الإيرانية وزيارته للمملكة العربية السعودية، وطروحاته الوحدوية بعيداً عن الفتن الطائفية، كما يزعم هذا الفريق.
حاول نظام ولاية الفقيه أن يطرح للشعوب الإيرانية المقهورة خيارين لا ثالث لهما، وهما التيار الإصلاحي والتيار المحافظ، وكلاهما تحت مظلة "ولاية الفقيه" والجمهورية الإسلامية بينما التيارات الأخرى تعتبر عميلة للخارج، وتُقمع بحجة مخالفتها للدستور الإيراني في مادة ولاية الفقيه.
وقد رأينا نهاية رفسنجاني، حيث أبناؤه في السجون الإيرانية لاسيما ابنته "فائزة"، صاحبة مجلة "زن روز" بمعنى (المرأة اليوم)، وما زلنا نتذكر محاولات رفسنجاني تغيير خامنئي في ولاية الفقيه، لكنه لم يحصل على النصاب المطلوب في مجلس الخبراء، حتى تمت تصفيته من قبل المرشد خامنئي نفسه كما تزعم عائلته وتيارات وشخصيات إيرانية معروفة. وأخيراً فتح الرئيس الإيراني الحالي حسن روحاني تحقيقاً موسعاً حول وفاة رفسنجاني ولم تخرج أية نتيجة لحد الآن.
وذكرت صحيفة الجارديان البريطانية في 10 يناير 2018 وجود مجموعة كبيرة من الإشعاعات في جسد رفسنجاني مما يجعل التشكيك في كيفية وفاته، وضرورة فتح تحقيق حيادي في الموضوع.
كذلك كانت فترة الرئيس الإصلاحي "محمد خاتمي" (1997 – 2005) حيث انفتح على الغرب وزياراته إلى فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا، وتوقيعه اتفاقيات معروفة، وانفتاحه على الدول العربية وزياراته لبعضها ثم انسحابه عام 2009 من انتخابات رئاسة الجمهورية لصالح المرشح الإصلاحي مير حسين موسوي، ثم انتقاده النظام في قمع احتجاجات الثورة الخضراء آنذاك حتى بات خاتمي في الإقامة الجبرية ويمنع الحديث إعلامياً عنه إلى يومنا هذا.
وأيضا الرئيس الحالي حسن روحاني منذ فوزه برئاسة الجمهورية عام 2013 وحتى الآن في دورته الثانية، وهو مدعوم بقوة من التيار الإصلاحي خصوصاً هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي ومير حسين موسوي ومهدي كروبي.
وقد تغلب روحاني على "إبراهيم رئيسي" رئيس مؤسسة "آستان قدس رضوي" التي تدير مرقد الإمام الثامن "علي بن موسى الرضا" في مدينة "مشهد" وتملك هذه المؤسسة أكثر من مائتي مليار دولار، وصاحبها "إبراهيم رئيسي" مدعوم بقوة من المرشد ومن التيار المحافظ.
حاول نظام ولاية الفقيه أن يطرح للشعوب الإيرانية المقهورة خيارين لا ثالث لهما وهما التيار الإصلاحي والتيار المحافظ، وكلاهما تحت مظلة "ولاية الفقيه" والجمهورية الإسلامية، بينما التيارات الأخرى تعتبر عميلة للخارج وتُقمع بحجة مخالفتها للدستور الإيراني في مادة ولاية الفقيه، والخارج عليها كما ينص الدستور "محارب لله ورسوله"، ويتم قمعها وتصفيتها كما حصل لكبار المراجع مثل محمد كاظم شريعتمداري وحسن قمي ومحمد حسن طباطبائي قمي، وصادق روحاني ومحمد روحاني، وحسين علي منتظري ومحمد شيرازي وصادق شيرازي ومحمود طالقاني ورضا الصدر، ومنهم المراجع العرب مثل محمد الكرمي ومحمد طاهر الخاقاني في الأحواز العربية.
كذلك نظام ولاية الفقيه حاول تسويق نفسه للخارج على أساس أنه نظام ديمقراطي، وللشعب حق الانتخاب ووجود المجالس الإيرانية المختلفة ووجود تيارين مختلفين: تيار محافظ تابع لنظام ولاية الفقيه، وتيار آخر إصلاحي معارض لولاية الفقيه كحالة ديمقراطية حضارية، تم التسويق لها في ماكينة إعلامية ضخمة وإعلاميين تابعين للنظام وأتباعهم من الإسلام السياسي الشيعي في العراق ولبنان والمنطقة، وكذلك الإسلام السياسي السني لاسيما الإخوان المسلمين المتحالفين مع ولاية الفقيه في قدسية "المرشد" والتحالف الفكري، والمشروع السياسي لإسقاط الدول والهيمنة على المنطقة.
نعتقد بأن التيارين الإيرانيين (الإصلاحي والمحافظ) كلاهما يتبع ولاية الفقيه، وهما وجهان لعملة واحدة هي ولاية الفقيه، حيث يكون تبديل الوجوه ضرورياً عندما تشتد الأزمات والضغوط على النظام، بل كل هؤلاء من أركان ولاية الفقيه وأدواته.
من أركان عقيدة النظام الإيرانية هي التقية والتورية والكذب والمراوغة، وهو الركن الثالث من الأركان العشرة في كتابنا الموسوم "إيران من الداخل". فالنظام الإيراني يضطر أحيانا لتبديل الوجوه عند اشتداد الضغوط عليه، وهو ما عبّر عنه كبيرهم "انحناء للعاصفة".
لقد كان هاشمي رفسنجاني من أهم أركان النظام ودعم ولاية الفقيه ضد معارضيها كما اعترف في كتابه "حياتي"، بل هو متهم بتصفية الكثير من القيادات التي سقطت أوائل الثورة كما في كتابي "إيران من الداخل" و"الإمبراطورية الفارسية صعود وسقوط".
وقياداته للبرلمان ورئاسة الجمهورية ومجلس تشخيص مصلحة النظام توضح ذلك، بل تأسيس المشروع النووي لإيران والمراكز الخاصة بتصنيع الصواريخ المتطورة، ونظرته للعرب والأحواز واحتلالهم جزر الإمارات العربية المتحدة والخليج العربي وغيرهما.
كذلك كان خاتمي من أركان ولاية الفقيه ضد خصومها وتبعيته للخميني الذي عيّنه لإخلاصه مديراً لمؤسسة "كيهان" الإعلامية الرسمية، كما عيّنه وزيراً للإرشاد والثقافة أيام الحرب الإيرانية ضد العراق، فهو قائد الحملات الإعلامية ضد العرب وتشويه صورهم في المناهج الرسمية والأفلام والجرائد والقنوات الإيرانية الرسمية وغيرها، كما تولى أثناء الحرب نائب ورئيس القيادة المشتركة للقوات المسلحة الإيرانية.
كان حسن روحاني أيضاً ممثل ولي الفقيه والأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي من 1998 وحتى 2005، بل كبير مفاوضي الاتفاق النووي 2003 – 2005 وتمثيلا لولاية الفقيه، ورأينا في فترة رئاسته دعمه ومنحه ميزانية للحرس الثوري أكبر من الجيش الإيراني وأيضاً دفاعه ودعمه للمليشيات الطائفية في العراق وسوريا ولبنان واليمن وغيرها.
الشعوب الإيرانية انتفضت أخيراً ضد ولاية الفقيه وأتباعها من التيارين المحافظ والإصلاحي، حيث كشفت اللعبة الإيرانية والتقية والكذب والمراوغة من النظام، حيث نادت بالموت لكلا التيارين بل "الموت لولاية الفقيه" ودكتاتوريتها وأدواتها مثل قاسم سليماني وأتباعهم في العراق ولبنان واليمن وسوريا، وسألوا عن أموالهم التي تذهب للمليشيات في الخارج، وهم جياع فقراء لا يملكون قوت يومهم، وانطلقوا إلى أكثر من مائة وخمسين مدينه ومنها قم وطهران واصفهان ومشهد وشيراز وغيرها.
لقد وعدهم الرئيس الحالي حسن روحاني في حملته الانتخابية الثانية بتحسين وضعهم الاقتصادي، لكنهم وجدوا عمليا عكس ذلك، حيث يصادق على ميزانية الحرس الثوري والمليشيات الخارجية دون النظر إليهم، مما جعلهم يرفعون شعار "الموت لروحاني" كأول شعار للمظاهرات التي انطلقت من مشهد، وعمت المدن الإيرانية المختلفة وشاركت فيها القوميات والمذاهب الأخرى بعكس "مظاهرات 2009 الخضراء" التي طالبت بالإصلاحيين مثل "مير حسين موسوي" و"مهدي كروبي" مقابل الرئيس المحافظ "أحمدي نجاد"، واقتصرت على الفرس دون القوميات الأخرى. هذه هي الحركة الليبرالية الحقيقية التي تمثل أكثرية الشعوب الإيرانية وطموحها نحو الدولة المدنية الحديثة والكرامة والحرية خارجاً كلياً من الإصلاحيين والمحافظين.
كما فهم الإيرانيون في الداخل تقية النظام ومراوغته بين المحافظين والمتشددين، ينبغي على الخارج أن يفهم اللعبة الإيرانية في المراوغة بين المحافظين والإصلاحيين، كونهما وجهين لعملة واحدة هي ولاية الفقيه الاستبدادية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة