لو أردنا وضع جردة حساب شاملة للأوضاع العربية الراهنة والأزمات المستعصية والمتجددة لاحتجنا إلى مجلدات كاملة لتعدادها وتحديد مساراتها ومسبباتها ومصادر إشعال نيرانها
لو أردنا وضع جردة حساب شاملة للأوضاع العربية الراهنة والأزمات المستعصية والمتجددة لاحتجنا إلى مجلدات كاملة لتعدادها وتحديد مساراتها ومسبباتها ومصادر إشعال نيرانها منها: الخارجية وتتعلق بالمطامع الأجنبية والتدخلات السافرة وزاد عليها في العقدين الماضيين الصراع الإقليمي وتقدم القطبين الرئيسين: إيران وتركيا لأهداف مختلفة، رغم أنهما يبدوان متقاربين ومتحالفين.
هناك علل مماثلة بين الأطراف الأخرى لا سيما المعارضة والقوى الفاعلة التي تكتفي بالاحتجاج والشكوى والنقد ورفع سقف المطالب وفي بعض الأحيان طلب المستحيل مع تجاهل المبدأ القائل: "إذا أردت أن تطاع فاطلب المستطاع" كأنه يقتدي بمن يرفع مهر ابنته لأنه لا يريد تزويجها
فإيران لديها أهداف توسعية لإحياء الإمبراطورية الفارسية تحت ستار ما يسمى "تصدير الثورة" الذي بدأته باحتلال الجزر الإماراتية وأكملتها بمحاولة السيطرة على العراق وسوريا ولبنان واليمن.
أما تركيا فتعيش في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان في أوهام إحياء الخلافة العثمانية كستار لمد مناطق النفوذ وضم أراضٍ سورية وعراقية من حلب إلى الموصل بما فيها من ثروات معدنية ونفطية ومائية من الفرات ودجلة.
وبالطبع، فإنه لا يمكن إغفال العامل الإسرائيلي والصهيوني الذي يهز استقرار المنطقة ويشعل نيران الفتن والحروب.
أما ما يتعلق بالعامل الرئيسي داخل الدول العربية فمسبباته أكثر من أن تحصى لتتحول إلى قنابل موقوتة مع تقاطعات العوامل الخارجية، إلا أنه لا يمكن الولوج في البحث المعمق عن مواطن العلل ووسائل معالجتها وانتظار الفرج في الأوضاع ما دامت العقليات السائدة تقوم على أساليب بالية عف عليها الزمن.
ولا يمكن توقع اجتراح حلول جذرية للأزمات المتصاعدة والمعقدة طالما أن كل الأطراف تتمسك بمواقفها وترفض الحوار واتباع سبل الحكمة ورفض الاعتراف بالرأي الآخر.
وحتى لا نذهب بعيدا في البحث عن الحلول، هناك تجارب عقلانية في العالم والدول الديمقراطية وفي بعض الدول العربية.. ففي الغرب تم إيجاد حلول ثابتة وأهداف متحركة بين الحكومة والمعارضة تقوم على وضع برنامج عمل وخطط جاهزة وسياسة عامة تتضمن كل مناحي الحياة من الضمان الصحي إلى الضرائب ومن المشاريع إلى فرص العمل وغيرها.
أما عن التجارب العربية فأذكر منها على سبيل التحديد تجربة الإمارات العربية المتحدة في معالجة احتياجات الشعب ومتطلبات الحياة الكريمة عبر إقرار سياسة عامة تؤمن الاستقرار والرخاء لسنوات مقبلة؛ بحيث يمكن القول إن القيادة تسبق الشعب في تأمين الخدمات والمشاريع العصرية من تعليم وطبابة وبنى تحتية ومسكن وضمان شيخوخة.
أما في معظم الدول العربية فإن الوضع مختلف وما شهدناه في لبنان وعدة دول أخيراً يمثل جانباً من جوانب الحقيقة المرة في ظل متغيرات سياسية واقتصادية وتكنولوجية وإعلامية كبرى في مختلف نواحي الحياة العامة، وبينها الانفتاح العالمي وسيطرة وسائل التواصل الاجتماعي وانكشاف العالم كله على الهواء مباشرة، بحيث لا يمكن إخفاء الحقائق.
فقد تعودنا من السلطات المعنية على سياسة الإنكار وعدم الاعتراف بالواقع ورفض البحث عن أسباب الشكوى ومواطن العلل وسط موجات الفساد الجرادية التي تأكل الأخضر واليابس والاستئثار بالسلطة والمضي في دفن الرؤوس في الرمال وإخفاء الأوساخ تحت السجادة كما يفعل البعض بدلاً من التنظيف الدائم والتطهير الشامل والإصلاح المتواصل.
في المقابل، هناك علل مماثلة بين الأطراف الأخرى، لا سيما المعارضة والقوى الفاعلة التي تكتفي بالاحتجاج والشكوى والنقد ورفع سقف المطالب، وفي بعض الأحيان طلب المستحيل مع تجاهل المبدأ القائل: "إذا أردت أن تطاع فاطلب المستطاع"، كأنه يقتدي بمن يرفع مهر ابنته لأنه لا يريد تزويجها، لأن هناك من يرغب في ترك الأوضاع على علاتها ليعمل على الاستفادة منها ومواصلة التحريض لغايات في النفوس.
وهذا ما شهدناه في الثورة اللبنانية حيث تعددت المطالب التعجيزية التي يعرف القاصي والداني أنها صعبة، أو مستحيلة. التحقيق بالسرعة المطلوبة لأسباب قانونية ودستورية وواقعية، أدى إلى إهمال المطالب المحقة وتعذر فتح باب الحوار ووضع العراقيل أمام الحل الوسط.
وهكذا تاه الشعب بين سياسة الإنكار والمكابرة ومواقف العناد والتصعيد ما ذكرني بقصة معبرة قيلت عن عدد من القادة بينهم الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة والديكتاتور الإسباني الراحل فرانكو، وملخصها أن قائدا حكم عشرات السنين حتى بلع من العمر عتياً إلى أن تعرض لوعكة صحية شلته وأصمت أذنيه وتم حشد الجماهير من قبل النافذين أمام قصره للتعبير عن ولائهم له وفجأة عاد إليه وعيه ليسمع صراخاً ونحيباً فالتفت إلى زوجته وسألها عن الأمر فقالت له إنه الشعب جاء ليودعك فملأت تعابير وجهه علامات الدهشة والاستغراب ليسألها بجدية: "ليش لوين الشعب مسافر"، نعم إلى أين سيسافر الشعب؟ سؤال وجيه!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة