بعد شهور من تعثر المفاوضات النووية بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، تفاجأ العالم بتوصل الطرفين إلى صفقة تحصل طهران بموجبها على جزء من أرصدتها المجمدة في المصارف الغربية، مقابل الإفراج عن ستة أمريكيين معتقلين لدى النظام الإيراني.
وكانت أنباء تتردد عن هذه الصفقة منذ توقف المفاوضات النووية قبل عدة أشهر. وكان الحديث عنها يخرج بشكل غير رسمي من مصادر إيرانية وأمريكية.
واعتبر المراقبون (أنا منهم) أن التلويح بأوراق مثل المسجونين والأرصدة المجمدة، حرب نفسية يسعى كل من الطرفين فيها إلى دفع الآخر نحو التنازل أو تليين الموقف في المسار الأصلي للمفاوضات النووية.
لكن يبدو أن حسابات الجانبين كانت متعارضة لكنها متشابهة في الوقت نفسه. إذ لم يحدث تقدم في المفاوضات الأصلية، بينما تبلور اتفاق فعلي على صفقة "مساجين مقابل دولارات".
وبموجبها ستطلق إيران سراح عدد من المعتقلين الأمريكيين لديها على أن تسمح لها الولايات المتحدة باستعادة نحو ستة مليارات دولار مجمدة لدى كوريا الجنوبية، وتستعيد أيضاً خمسة إيرانيين محتجزين في السجون الأمريكية.
وبعد تحول أنباء هذه الصفقة إلى واقع، عادت من جديد التساؤلات حول دلالاتها بالنسبة لتطور العلاقات الإيرانية-الأمريكية. وما إذا كانت الصفقة هي تمهيد إلى التوصل إلى اتفاق نووي جديد، أم هي مؤشر إلى تعثر المفاوضات واستبعاد الاتفاق الشامل.
وأعلنت واشنطن أكثر من مرة في تصريحات رسمية أن الصفقة ليست لها صلة بالمفاوضات النووية. بينما كانت إيران أكثر تحفظاً وتجنبت اتخاذ موقف واضح يفصل أو يربط بينهما. إلا أن مبررات النفي الأمريكي داخلية، فبداية حملة الانتخابات الرئاسية 2024 صارت وشيكة، وبالتأكيد لا يريد الرئيس جو بايدن ومعه الحزب الديمقراطي التورط في قرارات أو مسارات قد يندم عليها أو ربما لا تكتمل أصلاً.
ولهذا فحتى وإن كانت الصفقة الحالية جزءاً من مسار المفاوضات النووية أو خطوة مرحلية على طريق إبرام اتفاق شامل، فربما النفي هو الخيار الأفضل في تقديرات إدارة بايدن، انتظاراً لما ستؤول إليه بقية مراحل التفاوض. ويرجح التحفظ الإيراني هذا التحليل، وإلا لسارعت طهران أيضاً إلى تبني نفس الموقف بل ربما بادرت قبل واشنطن إلى تأكيد أن الصفقة منفصلة.
في أي مسار تفاوضي، هناك دائماً مدرستان، لكل منهما منطقها وحججها. المدرسة الأولى: تدعو إلى تجزئة الملفات والفصل بين معطيات وقواعد التفاوض حول كل منها. وبالتالي إبرام اتفاقات جزئية ولو على مراحل. وهي مدرسة ناجحة وفعالة خصوصاً في الصراعات الكبيرة التي تنطوي على زوايا متعددة وأبعاد مختلفة. حيث يكون هنا للتفكيك والتجزئة دور مهم في تسهيل التفاوض عبر حل العقد الكثيرة المتداخلة كل على حدة.
أما المدرسة الثانية: فتقضي بضم كل الملفات والقضايا العالقة، بهدف إبرام صفقة شاملة ونهائية لا تترك فرصة لأي ألغام أو خلافات مؤجلة قد تفتح باباً للتراجع والتنصل من الاتفاق لاحقاً. والأمثلة كثيرة على اتفاقات وتسويات استبعدت مسائل خلافية أو أجلتها لأنها أقل أهمية من غيرها، وكانت النتيجة انهيار الاتفاق الأصلي.
نحن كخليجيين، لسنا معنيين بأي من المدرستين سيتبع مسار المفاوضات الأمريكية-الإيرانية. لكننا معنيون وبشدة بمضمون المفاوضات والنتائج التي ستسفر عنها، سواءً كانت جزئية أو شاملة. فمعيار الاتفاق الجيد أو السيئ بالنسبة للدول العربية وبالأخص دول الخليج، هو الضمانات التي سينص عليها الاتفاق بشأن الأنشطة النووية الإيرانية، والحيلولة دون عودة طهران إلى انتهاك اتفاقيات وبروتوكولات الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
كذلك من المهم بل من الضروري ربط الأنشطة النووية الإيرانية بغيرها من الأنشطة العسكرية، سواءً تعلقت بأسلحة دمار شامل، أو بأسلحة ذات تقنيات متقدمة مثل الطائرات بدون طيار (المسيرات) أو بالأنشطة والقدرات الصاروخية وأهمها الصواريخ الباليستية التي تعد أسلحة خطيرة وفي نفس الوقت بإمكانها حمل رؤوس نووية. ويبقى بعد كل ذلك الدور الإيراني وتحركاتها المهددة للاستقرار في الشرق الأوسط، سواءً بشكل مباشر أو عبر وكلائها وحلفائها.
تلك هي القضايا والملفات التي تحتاج إلى تعهدات إيرانية محددة بشأنها، وضمانات بالتزام طهران بتلك التعهدات. وهو ما يعني مسؤولية أمريكية كاملة عن تلبية أي اتفاق، جزئي أو شامل، لهذه المتطلبات. فالأصل لا يوجد موقف خليجي، خصوصاً من الإمارات ضد أو سلبي تجاه أي تفاهمات أو اتفاقات من شأنها تعميم الهدوء في المنطقة.
ولا شك أن تلك الضمانات هي التي تهيئ الطريق نحو الاستقرار الإقليمي. وحال استيفاء تلك الالتزامات، سواءً بتفاهمات جزئية أو اتفاق شامل، لا مشكلة لدى الدول الخليجية والعربية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة