وهل بمقدور تركيا تجاهل حقيقة أن مخاطر خطط التمدد الإيراني في المنطقة والمعادلات والتوازنات الإقليمية ستعود عاجلاً أم آجلاً.
قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، بعدما أعلن أنه كان اتفاقاً مجحفاً بحق بلاده والعديد من دول المنطقة التي عارضته، ولم تكن أساساً طرفاً فيه؛ ومنح طهران فرصة توسيع نفوذها الأمني والسياسي، وتعزيز صناعاتها للصواريخ الباليستية والتدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة.
للمرة الثانية خلال أقل من شهرين تختار أنقرة الوقوف إلى جانب إيران في ملفات إقليمية ساخنة، فهل ترد طهران جميل أنقرة وتعطيها ما تريد؟ عندما يقول مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون إنه بعد الشركات الإيرانية سيأتي دور الشركات التي تتعامل معها، ألن يعني ذلك تركيا بشكل أو بآخر؟.
البيت الأبيض يقول أكثر من ذلك إن مشاريع تضييق الخناق على الشركات الإيرانية في العالم؛ في إطار خطط إعادة فرض الحظر والعقوبات على طهران بسبب إخلالها بالالتزامات والتعهدات المتفق عليها قبل 3 سنوات مع مجموعة 5 +1 حول برامجها النووية ستعقبها عقوبات مماثلة على الشركات الغربية والإقليمية التي تتعامل معها، هل تعني رسائل من هذا النوع العاصمة التركية؟.
قبول أوباما بالاتفاق النووي مع إيران مبرره هو أن الرئيس السابق كان يعتبر أن طهران مرشحة لأن تكون شريكاً إقليمياً للولايات المتحدة توصلها إلى ما تريد بأقصر المسافات وأسرع الطرق، وأن أنقرة لم تعد قادرة على منافسة طهران في أكثر من ملف إقليمي. فما الذي يدفع أنقرة رغم ذلك، للاصطفاف بحماس إلى جانب طهران في انتقاد الموقف الأمريكي على هذا النحو؟.
التغطية التي وفرتها إدارة أوباما لطهران كانت في إطار "الواقعية الأمريكية الجديدة"، التي تطلق يد النظام الايراني في أكثر من مكان، لكن ما أقدمت عليه القيادات الإيرانية في سوريا ولبنان والخليج، ومحاولة استغلال الاتفاق كغطاء أمني وسياسي واقتصادي لتوسيع رقعة نفوذها على حساب أمريكا نفسها في المنطقة خيب آمال واشنطن، ودفعها للتصعيد على هذا النحو، فلماذا تدعم حكومة العدالة والتنمية الموقف الإيراني هنا بدل الانحياز إلى جانب الحليف الأمريكي والعديد من العواصم والقوى الإقليمية التي عانت من سياسات إيران وتهديداتها وتحدياتها؟.
كانت واشنطن عام 2015 تراهن على اتفاقية نووية تفتح الأبواب أمام تغيير سياسي واجتماعي في الداخل الإيراني، وتراجع سلطات القوى الدينية المتشددة لصالح الانفتاحيين والليبراليين، فكانت النتيجة خيبة أمل أمريكية أخرى أبرز مؤشراتها التهديدات اليومية التي توجهها طهران لجيرانها، وترجمة ذلك بتسليح الحوثيين بالصواريخ بعيدة المدى لاستهداف السعودية على هذا النحو، فكيف يفوت كل ذلك على القيادات السياسية التركية؟.
وهل بمقدور تركيا تجاهل حقيقة أن مخاطر خطط التمدد الإيراني في المنطقة والمعادلات والتوازنات الإقليمية ستعود عاجلاً أم آجلاً إلى سابق عهدها شاءت إيران أم أبت، وأن طهران تعتبر روسيا والصين شريكيها الحقيقيين مهما فعلت أنقرة؟
إذا ما اكتفت طهران وأنقرة بالدعوة إلى عقد الاجتماعات .والقمم والتنديد والإدانة، ورفض المواقف الأمريكية كلامياً، فهذا يعني أن المواجهة العسكرية الإيرانية الإسرائيلية أو الإيرانية الأمريكية أو حتى التصعيد التركي الأمريكي سينتهي عند هذا الحد، ويمضي كل جانب في طريقه لأنه لا يريد أكثر من ذلك وهو الاحتمال الأقرب.
احتمال آخر أن تكون حكومة العدالة والتنمية التركية هي من سيتحرك لإقناع طهران بعدم التصعيد أكثر مع أمريكا، لأن المزيد من التوتر سينعكس سلباً على مصالحها مع البلدين، ولأنها لا تريد أن تدخل في مغامرات ومخاطر سياسية وأمنية واقتصادية داخلية وخارجية وهي في الطريق الى الانتخابات بعد شهر تقريباً.
تعطي تركيا اليوم الأولوية لعدم التفريط في علاقاتها مع طهران آخذة بعين الاعتبار حماية مسار علاقاتها التجارية المتراجعة معها، والتي انخفضت إلى حوالي 12 مليار دولار بالمقارنة مع 22 مليار دولار قبل أعوام، لكنها تتجاهل هنا مخاوف شركائها المحليين والإقليميين وسياسة إيران التهديدية وحاجتها إلى علاقات تجارية وسياسية مع اللاعبين الإقليميين الآخرين.
الرئيس التركي أردوغان رفع بدوره مؤخراً من لهجته في مواجهة ترامب منتقداً أسلوب الإدارة والقرارات التي يتخذها في معظم الملفات، الود التركي الأمريكي يتراجع بسرعة لصالح التصعيد والتوتر، فهل يكفي أنقرة تحسين علاقاتها والبحث عن مصالحها وتعويض النقص التجاري والأمني عند الروس والإيرانيين؟
هل باتت أنقرة محكومة بالسياسة الإيرانية الإقليمية بعدما تراجعت علاقاتها مع دول المنطقة الأخرى؛ متناسية أن طهران كانت أول من وقف في وجه عملياتها العسكرية في جرابلس والباب وعفرين حتى لا نقول إنها هي من يتحمل مسؤولية استهداف الجنود الاتراك هناك؟، وهل تنسى أنقرة كيف طبّل وزمّر الإعلام الإيراني أو المحسوب عليه للتنسيق والتحالف بين قوات النظام السوري وقوات سوريا الديمقراطية، والمليشيات الإيرانية أمام معبر السلامة جنوب عفرين في مواجهة "قوات الاحتلال التركي" قبل أشهر؟، وهل ستترك أنقرة جانباً كل تقارير أجهزة استخباراتها حول حجم الاختراق الاجتماعي والثقافي والإعلامي الإيراني للداخل التركي، والتواصل القائم بين المؤسسات الإيرانية، ومقربين عديدين منها في المدن الحدودية صلة الوصل مع "الداخل العلوي"؟.
ترامب يقول إيران أساءت التصرف فيما يتعلق بالاتفاق النووي، المبرم معها، وإنها تطوّر صواريخ بالستية قادرة على حمل رؤوس نووية وتهديد أمن جيرانها، وإن موازنة إيران العسكرية ارتفعت بنسبة 40 في المئة منذ التوصل إلى الاتفاق النووي، وإنها كانت تحاول السيطرة على الشرق الأوسط بأي وسيلة ممكنة..
الآن هذا لن يحدث، لكن أردوغان يقول إن واشنطن ستكون هي الخاسرة بهذا القرار، وإن انسحاب أمريكا من الاتفاق سيكون له تأثيره السلبي على الاقتصاد الأمريكي، ويتساءل حول أسباب "فتح المجال أمام خلق أزمات جديدة"، والمتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالن يرى "أن انسحاب أميركا من الاتفاق النووي سيسبب مزيداً من عدم الاستقرار ويثير اشتباكات جديدة"، والخارجية التركية تقول إن الخطوة الأمريكية هي خطوة مؤسفة والحل الوحيد هو لغة الدبلوماسية والتفاوض".
هل تأخذ واشنطن بنصائح أنقرة هذه أم أن ترامب سيمضي وراء قراره حتى النهاية، فكيف ستتصرف أنقرة عندها؟
التقارب التركي الإيراني كان أقرب إلى حالة الزواج العرفي من أن يكون نكاحاً كاثوليكياً أو شراكة استراتيجية، فهل تنقلب المعادلة هذه المرة؟
يعكس الموقف التركي المزيد من الابتعاد عن السياسة الأمريكية، وهو خطوة جديدة على طريق التقارب مع إيران وروسيا، لكن معادلة تركيا المستحيلة بعد الآن هي رغبتها في أن تكون حليفة لطهران ولواشنطن على السواء.
أنقرة تنسى أن طهران هي التي أعلنت أنها ستعطي العواصم الغربية الأخرى الموقعة على الاتفاق النووي مدة 60 يوماً لإعطاء قرارها النهائي، ولتحدد موقفها هي أيضاً على ضوء ذلك، قمة الرغبة الإيرانية في التحدي والتصعيد التي لا تراها أنقرة.
أنقرة كانت تراهن دائماً على الاستفادة من التوتر العربي الإيراني وحاجة العواصم العربية لها في مواجهة من هذا النوع، لكن الذي جرى هو أن الكثير من القيادات والعواصم العربية لم تعد تريد الذهاب وراء معادلة من هذا النوع، وحسمت موقفها من خلال البحث عن خيارات أخرى تخرجها من قدر "المظلة التركية"، وهذا ما دفع أنقرة نفسها للذهاب وراء الورقة الإيرانية الإقليمية والارتباط بها بعدما فرطت بالكثير من الفرص في علاقاتها مع العالم العربي والعواصم الأوروبية.
هل سنتفاجأ يوماً إذا ما وجدنا مواقف غربية أو عربية متشددة حيال أنقرة مشابهة لما هو قائم اليوم مع إيران، وكيف تستعد القيادات السياسية التركية لسيناريو بهذا الاتجاه؟
تركيا تتفق مع الكثيرين حول أن إيران يجب ألا تمتلك السلاح النووي، لأن ذلك يهدد مباشرة التوازنات الإقليمية ويعزز من حالة عدم الاستقرار في المنطقة، بل ويضر بطموحاتها للحفاظ على وضعها كقوة إقليمية رئيسية تنافس إيران، لكن تركيا بسبب تضارب مواقفها من إيران سقطت اليوم في ورطة ابن الجيران الخجول الذي تردد لأسابيع في مصارحة جارته بغرامه، وهي ملت الانتظار مما دفعها لقرع بابه تسأله إمكانية ائتمانه على قطتها أثناء تناول العشاء مع أحد المعجبين بها.
للمرة الثانية خلال أقل من شهرين تختار أنقرة الوقوف إلى جانب إيران في ملفات إقليمية ساخنة، فهل ترد طهران جميل أنقرة وتعطيها ما تريد؟ عندما يقول مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون إنه بعد الشركات الإيرانية سيأتي دور الشركات التي تتعامل معها، ألن يعني ذلك تركيا بشكل أو بآخر؟.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة