في جميع الحالات لن يحمل الخمينيون إلى سوريا ما يصنع منها دولة مستقلة ذات سيادة، وتنافس عالميا أو إقليماً في مجالات العمل والحياة
ربما يصعب على إيران الاحتفاظ بمواقعها العسكرية في سوريا بسبب الاستهداف الإسرائيلي المستمر لها من جهة، والنقمة الأمريكية على تمددها في دول المنطقة من جهة أخرى.
لكن ماذا عن مواقع إيران في مفاصل الدولة؟ ماذا بشأن هيمنتها على قطاعات العمل والحياة في البلاد؟ ماذا يمكن فعله إزاء ذلك التغلغل الهادئ للخمينيين في مجالات تمس السوريين حاضراً ومستقبلاً؟
في الأمس تبرم طهران ودمشق اتفاقية للتعاون في قطاع الاتصالات، ومن قبلها اتفاقاً لتطوير قطاع التعليم.
هذا بالإضافة إلى أن الأدوية الإيرانية باتت الخيار الأول للمستشفيات والمراكز الطبية السورية. كما أن للإيرانيين اليد الطولى في المواقع العسكرية التابعة للجيش السوري. ولا نبالغ بالقول إن لطهران في العاصمة السورية ساسة وبرلمانيون وأكاديميون وإعلاميون يعملون لصالحها.
سيطرة طهران على الاتصالات في سوريا تنطوي على أكثر من الفائدة المادية الكبيرة لهذا القطاع. فعندما تقبض الأيادي الإيرانية على قنوات الاتصال عبر الهاتف العادي أو الخليوي، فهذا يعني قدرتها على مراقبة الاتصالات من جهة، وإحاطتها بالأنماط الاستهلاكية والاتجاهات المجتمعية في القطاع من جهة أخرى. الأمران مهمان للغاية ويتيحان لطهران التمدد في المجتمع السوري أفقياً وعامودياً.
شركة محمول إيرانية وكابلات إيرانية توصل الشركة بكل خطوط الاتصالات الأرضية والفضائية. هذا كل ما تحتاجه طهران لتؤسس قاعدة بيانات مهولة عن السوريين وتضعهم تحت أعينها ليل نهار. ولا تعرف ما إذا كان القادم في أحلام نظامي الأسد والخميني، إطلاق قمر صناعي يسبح فوق الفضاء السوري ويرصد كل تحرك للبشر وغيرهم من المخلوقات، وربما الأشباح، على أرض "الدولة".
في جميع الحالات لن يحمل الخمينيون إلى سوريا ما يصنع منها دولة مستقلة ذات سيادة، وتنافس عالميا أو إقليماً في مجالات العمل والحياة! حتى لو كانوا يمتلكون مفاتيح الحضارة والقوة والتقدم فلن يقدموها للسوريين، لأنهم ببساطة يريدون إبقاء دمشق ولاية من ولايات إمبراطورية الولي الفقيه التي تمتد من طهران إلى المتوسط.
في السيطرة الإيرانية على قطاع التعليم السوري كارثة أكبر بكثير من الاتصالات. لك أن تتخيل ماذا يمكن أن يحدث للمجتمع عندما تتفشى فيه ثقافة الخمينيين وأفكار الحرس الثوري و"الثورة الإسلامية". تجتاح المدارس والجامعات ووسائل الإعلام، ومنها تنتقل إلى أماكن العمل والعبادة والمؤسسات العسكرية والمدنية والشوارع والأسواق والمقاهي وحتى الحدائق العامة والمطاعم الشعبية.
ماذا يمكن للإيرانيين أن يعلموا الأجيال القادمة من السوريين بعد أن عهدت لهم حكومة دمشق بتطوير المناهج وطباعتها؟ هل المناهج الإيرانية ستكون البوابة التي تنتقل عبرها "الثورة الإسلامية" إلى سوريا؟ هل يريد الخمينيون أن ينتجوا أجيالاً من "المقاومة" الدونكشوتية التي تدين بالولاء الأعمى للولي الفقيه، وهو يكذب ويكذب ويكذب فيما يدعيه من ضواغن أحلام وبقايا مقدسات؟
صحيح أن ثقافة التشييع قد ظهرت في سوريا قبل عام 2011، ومن ثم تفشت في مناطق سيطرة الحكومة خلال سنوات الأزمة التسع. ولكن تسليم مناهج التعليم للإيرانيين يفوق التشيع بكثير. أو بتعبير أخر هو ينشر الخمينية في ثوب من التشيع الذي قد يقبله البعض لأسباب دينية. فيعمم فكراً إقصائياً يمزج السياسة مع الدين بانتهازية قميئة، تمنح الولي الفقيه سلطة إلهية على الأرض.
يستعبد الولي الفقيه البشر لما يخدم مصلحته، والمصيبة أن الأتباع يرون في هذا الاستعباد بحد ذاته مكرمة تحتاج إلى الشكر. هنا يصبح التبشير بالخمينية في مناهج الدراسة، بمثابة دق المسمار الأخير في نعش مستقبل سوريا، ولن يعود مجدياً إخراج القوات الإيرانية من البلاد، أو حل ميليشيات طهران هناك.
ماذا يمكن للخمينيين أن يُعلِّموا السوريين؟ سؤال قد تستقي إجابته من رصد واقع الحال في إيران اليوم. الناس هناك يعيشون تحت وطأة العقوبات الاقتصادية الدولية منذ وصول الولي الفقيه إلى السلطة قبل أربعة عقود. المعارضة مصيرها السجن أو النفي أو الإعدام، وفي العقوبة الأخيرة تتصدر إيران دول المنطقة، وتأتي في المرتبة الثانية عالمياً من حيث العدد والأولى في النسبة إلى السكان.
لا يعرف عن نظام التعليم في إيران تطوره ولا تجده على خريطة الدول التي تنافس بمناهجها عالميا. كان من الأجدى لطهران قبل أن تأخذ على عاتقها تطوير التعليم في سوريا، أن تتخلص من مدارس الأكواخ في المناطق النائية. تلك المدارس التي يعاني فيها الطلبة من البرد والحر ولدغات الأفاعي. وأخر ما تمخضت عنه عبقرية الخمينيين في حل هذه المشكلة هو استبدال الأكواخ بكرفانات.
هناك في طهران ومدن عدة مدارس كثيرة متهالكة، والدولة النفطية التي تفاخر باحتلالها لأربع عواصم عربية لا تستطيع ترميم هذه المدارس. فيما عشرات الآلاف من طلبة الأرياف والقبائل البدوية لا يجدون مكاناً إلا الخيم للتعليم. الحكومات الخمينية المتعاقبة تعهدت بحل المشكلة وكذبت. وفي المقابل أنفقت الأموال على المعاهد والحوزات الدينية بأرقام فلكية وكأنها عصب الحياة هناك.
تمتلك إيران خبرات نووية وخبرات في صناعة الصواريخ والأسلحة. ولكن هل هذا ما يحتاج السوريون تعلمه الآن؟ كل الأسلحة التي امتلكها الجيش السوري منذ وصول عائلة الأسد إلى السلطة عام 1970، جربت ضد الشعب وليس ضد العدو. ومن يدري، ربما لو امتلك الأسد قنبلة نووية قبل عام 2011 لاستخدمها في قمع الثورة. تماماً كما استخدم الأسلحة الكيميائية في مواجهة المعارضين ببعض المناطق.
في جميع الحالات لن يحمل الخمينيون إلى سوريا ما يصنع منها دولة مستقلة ذات سيادة، وتنافس عالميا أو إقليماً في مجالات العمل والحياة. حتى لو كانوا يمتلكون مفاتيح الحضارة والقوة والتقدم فلن يقدموها للسوريين، لأنهم ببساطة يريدون إبقاء دمشق ولاية من ولايات إمبراطورية الولي الفقيه التي تمتد من طهران إلى المتوسط، مرورا بالعاصمة العراقية بغداد، وانتهاءً بالعاصمة اللبنانية بيروت
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة