هذا الحدث الماضوي هو الذي يفسر وجود إيران في سوريا والعراق واليمن ولبنان وغيرها لهثا خلف المعادلات الأيدلوجية البالية غير الواقعية
منذ أشهر في أحد المقاهي البلجيكية الشهيرة بعد أن أنهيت مكالمتي الطويلة التفت إلى أحد الجالسين بجواري ليسألني: عربي؟ أتحاشى في العادة مثل هذه الأسئلة تحوطا لكن لكنته جعلتني أجيب بنعم، ومن السعودية. قدّم لي نفسه على أنه إيراني وهذه الجالسة بجواره زوجته وهم هنا في إجازة، يعمل أستاذا في الجامعة ولديه كتاب لم يستطع طباعته فاكتفى بتوزيعه عبر أحد مواقع الإنترنت التي تسمح بتحميل الكتب.
كان الحدث الأبرز في تلك الفترة عالميا هو القمة العربية الإسلامية الخليجية التي احتضنتها الرياض وأول زيارة للرئيس الأمريكي الجديد خارج الولايات المتحدة التي كانت باتجاه المملكة.
الحدث ضخم جدا وأبرز من شعر بمحوريته هم الإيرانيون؛ لقد كانت اللحظة التي أعلنت لهم أن العالم ينصرف عنهم وينطلق لمواجهة تحديات أمنية وتنموية واسعة.
الغلاء والبطالة ليستا إلا توصيفات إعلامية للثورة ومبرراتها، بينما المبرر الحقيقي أشمل وأكبر من ذلك؛ إنها ثورة ضد هذا النموذج الحاكم في إيران والذي لا مكان له في الواقع المعاصر على الإطلاق ولا خيار أمام الثورة إلا أن تستمر ولا خيار أمام العالم إلا أن يدعمها
شهد انطلاق النقاش بيننا لحظة محورية جدا، فقد اشترط عليّ وأنا أتحدث أن أفصل بين الشعب الإيراني وبين النظام، بينما اشترطت عليه أنا ألا يفصل أبدا بين الشعب وبين النظام، مثلت تلك اللحظة عنصرا مؤثرا في كل نقاشنا، لم يشأ أن يجعل هذه اللحظة تمرّ دون توقف عندها، لماذا بينما أتبرأ أنا من النظام تصر أنت على خلاف ذلك؟ لأن ما يريده (النظام) لدي هو بالتمام ما أريده أنا، ليس لدى الدولة من أهداف خارج الدولة، وطموحها ينحصر بي أنا وبمستقبلي ومستقبل أبنائي، نحن لا نخوض صراعات من أجل ضريح أو غيب لا يمكن قياسه، نحن نقاتل من أجل واقع ومستقبل حقيقي مزدهر يمكن قياسه.
لكن ماذا عن دوركم في سوريا والعراق؟ ألا يوجد هناك سعوديون؟ ربما يوجد سعوديون لكن لا توجد السعودية، هؤلاء خصوم للداخل كما هم خصوم للإنسانية والحريّة وجنسيتهم لا تعنيهم هم بالدرجة الأولى، وبالتالي هم جزء من المواجهة بالنسبة لنا، رهاننا على الوعي الوطني لا على الأممي، نحن لسنا مرجع السنة في العالم، نحن مرجع السعوديين فقط وهم شأننا ومسؤولون عن واقعنا الإقليمي للحفاظ على أمننا، نحن لسنا دولة دينية ثيوقراطية بل نحن دولة إسلامية حديثة تزداد حداثة كل يوم وتراهن على المستقبل الواقعي، لا ننتظر من يخرج لنا من السرداب ولا نوجه مقدراتنا للثأر من حدث تاريخي ماضوي انتهى ولا نملكه.
هذا الحدث الماضوي هو الذي يفسر وجود إيران في سوريا والعراق واليمن ولبنان وغيرها لهثا خلف المعادلات الأيدلوجية البالية غير الواقعية والشعب الإيراني والتنمية والمستقبل آخر ملفاتها وأتفه قضاياها.
يعرف صاحبنا جيدا من هي ندا سلطان آغا ويعرف تفاصيل الثورة الخضراء التي اندلعت في إيران العام ٢٠٠٩ قبل أن تتجه بوصلة الفوضى نحو منطقتنا بعامين، كان يركز في حديثه على حالة من الغربة والشقاق النفسي بين الناس وبين النظام؛ إنه لا يعكس طموحات الشباب ولا أفكارهم ولا تطلعهم وبات بشكل عبئا على حياتهم. في هاتفه المحمول بضعة صور أراد مفاجأتي بها، ربما إنك صغير في السن ولا تعرف كيف كانت إيران قبل الثورة وانظر إلى هذه الصور، أرأيت؟ كنا جزءا من العالم الذاهب نحو التحضر والحريات حتى جاءت الثورة وتغير كل شيء بعد العام ١٩٧٩.
يقول لي: نعلم أن دول الخليج تفرق بيننا وبين النظام، أنتم تستبقلون الحجاج والمعتمرين كل عام، بينما نظامنا يبني مليشيات تهاجم حدودكم، ودبي تستقبل يوميا المئات من العاملين والسياح، وندرك جيدا أن المجموعة الحاكمة في طهران تمثل نموذجا غريبا وغير متسق مع ما وصل إليه العالم اليوم في ظل الدولة الوطنية الحديثة.
أتذكر اليوم ذلك اللقاء وأنا أتابع الأحداث اليومية التي تتوالى من إيران؛ غضب غير مفاجئ ظل كامنا وموشكا على الانفجار في أي لحظة، وبينما توشك الثورة التي حدثت في إيران على إكمال عقدها الرابع يتلفت الإيرانيون حولهم فلا يجدون إلا التشدد والفقر والقمع وإهدار كل مقدرات الشعب الإيراني في إذكاء الحروب والنزاعات في المنطقة، تعلمت هذه الثورة الجديدة من أحداث الثورة الخضراء فخرجت تلقائية جريئة، وفي الواقع فإن الغلاء والبطالة ليست إلا توصيفات إعلامية للثورة ومبرراتها، بينما المبرر الحقيقي أشمل وأكبر من ذلك؛ إنها ثورة ضد هذا النموذج الحاكم في إيران والذي لا مكان له في الواقع المعاصر على الإطلاق، ولا خيار أمام الثورة إلا أن تستمر ولا خيار أمام العالم إلا أن يدعمها.
وأنا أتابع مقاطع فيديوهات الثورة أحاول أن أدقق في الوجوه لربما أعثر على وجه صاحبي الإيراني؛ لم أعثر عليه إلى الآن لكن قد ألمحه قريبا، خاصة أنه ممن يحملون حنينا واسعا لبلاده قبل الثورة التي دمرت كل شيء.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة