نجّار يعيد إعمار الموصل بالنحت.. معالم المدينة على الخشب
مصطفى الذي يناهز عمره الـ70 عاماً يمضي عدة ساعات يومياً في ورشته الصغيرة وسط دمار الموصل، يمسك بيده منشاره الصغير ليقطع الخشب.
قطع فنيّة مصنوعة من الخشب تحاكي فن العمارة في مدينة الموصل القديمة التي دمرتها الحرب ضد تنظيم "داعش" الإرهابي، وأخرى تروي قصة حضارة نينوى التي تمتد جذورها إلى آلاف السنين عندما كانت الموصل أحد أهم مدن العالم القديم وعاصمة الإمبراطورية الآشورية، هذا هو المشهد في ورشة النجار الموصلي محمد سعيد مصطفى.
لم تثن الحرب وسيطرة "داعش" على محافظة نينوى والظروف التي مرت بها هذه المحافظة خلال الأعوام الماضية، النجار الموصلي محمد سعيد مصطفى عن مشروعه لإعادة الحياة إلى حضارة نينوى وفن العمارة فيها من خلال صناعة نسخ خشبية مصغرة لمعالم الموصل ومنازلها القديمة المزخرفة برموز الديانات والقوميات والمكونات المتنوعة التي عاشت في بلاد ما بين النهرين منذ آلاف السنين.
يمضي مصطفى الذي يناهز عمره الـ70 عاماً عدة ساعات يومياً في ورشته الصغيرة وسط دمار الموصل، يمسك بيده منشاره الصغير ليقطع الخشب قبل البدء في إحياء معلم جديد من معالم مدينته التي يطغى الدمار على أكثر من 80% من مساحتها.
ينحت النجار الموصلي الخشب بدقة لوضع التفاصيل على القطعة الفنيّة المتمثلة ببيت موصلي قديم ذات شبابيك وبيبان خشبية، وبعد عمل دقيق يستغرق عدة أيام غالباً تولد القطعة الفنية التي تروي قصة الحياة والتعايش في الموصل قبل أن يسيطر عليها تنظيم "داعش" الإرهابي.
والنجار مصطفى من سكان حي الميدان في المدينة القديمة وسط الموصل، حيث ولد ونشأ بين بيوتها القديمة وأزقتها الضيقة في الحي الذي يحتضن سوق النجارين، لذلك فتح عيناه وسط هؤلاء النجارين البسطاء الذين يعملون ويعرضون ما تصنعه أياديهم على بسطات في الشارع، وكان من ضمنهم "الجراغين" وهم صناع المهود والألعاب الخشبية، ونجارون آخرون كانوا مختصين بصناعة الزوارق التي كانت حتى ثلاثينيات القرن المنصرم تشكل وسيلة النقل الرئيسية بين جانبي الموصل الأيسر والأيمن.
وقال مصطفى لـ"العين الإخبارية": "أحب الفن كثيراً خصوصاً فن النجارة ونحت الخشب، لذلك كنت أتابع عمل النجارين في حيِّنا منذ الصغر، وعندما أصبحت شاباً رافقت عدداً من أصدقائي النجارين العاملين في مجال صناعة الأثاث حتى تعلّمت منهم بعض تفاصيل الحرفة، وبدأت في ممارسة فن نحت الخشب في ورشهم، وأعجبوا بعملي وشجعوني على الاستمرار لذلك كانت تلك انطلاقتي في مجال صناعة المصغرات الخشبية".
واندثرت غالبية معالم الموصل التاريخية إثر الحرب التي خاضتها القوات الأمنية العراقية ضد إرهابي تنظيم "داعش" لتحرير الموصل منهم بعد أن سيطروا عليها لأكثر من 3 سنوات بدأت من 10 يونيو/ حزيران 2014 واستمرت حتى 10 يوليو/ تموز 2017، ومارس التنظيم خلال تلك الفترة عمليات تدمير ضد المواقع الأثرية والآثار في الموصل.
وتابع مصطفى: "إعجابي الشديد بالطراز المعماري الموصلي القديم وبالنقوش التي كانت تزين أبواب وجدران المنازل القديمة المطلة على نهر دجلة التي كانت تمتلك القبب ومزينة بالأقواس المصنوعة من الحجر، جعلت أعمالي كلها انعكاساً للتراث والتاريخي الموصلي، وبعد سيطرة داعش على الموصل عام 2014 وما تلتها من أحداث ومعارك دمرت غالبية أبنية المدينة التاريخية ازداد اندفاعي لإحياء التراث المعماري القديم للموصل عبر صناعة مجسمات خشبية مصغرة لها كي تتمكن الأجيال القادمة من التعرف على معالم المدينة التي اندثرت".
وعبر النجار الموصلي عن تمنياته بإعادة الحياة إلى مدينته وكنائسها ومعابدها ومساجدها ومدارسها والبيوت الموصلية التاريخية، كما كانت قبل التدمير أي بنفس الطراز المعماري، داعياً الحكومة العراقية والمجتمع الدولي للاهتمام بالموصل كجزء من الحضارة العالمية.
بدوره أشار الناشط الموصلي، شعبان فلاح، إلى أن الموصل شهدت بعد تحريرها من "داعش" الكثير من المبادرات، موضحا لـ"العين الإخبارية": "مبادرة هذا الرجل جزء من محاولات الموصليين لإعادة الحياة إلى مدينتهم، فهو يحاول وبالرغم من كبر سنه إعادة إحياء معالم الموصل القديمة، وتأتي هذه الجهود في إطار توظيف الفن لتوثيق الدمار الذي لحق بالموصل، وهذا في حد ذاته يمثل عملية الترويج لثقافة السلام والتعايش في الموصل ونبذ الكراهية التي زرعها الإرهابيون".
وأكد فلاح أن الروح الموصلية ما زالت حيّة وتحب السلام والتطور، فهذه المدينة حرمها داعش لأكثر من 3 أعوام من السلام والفن والحب والثقافة، لكنها اليوم تعود وبقوة إلى الساحة الثقافية عبر جهود أبنائها.