الموصل بذكرى تحريرها.. يوميات مثقلة ترنو لنفض رماد "داعش"
بعد مرور عام مضى على تحرير مدينة الحدباء، يدفعك الفضول للتجول في مدينة كانت عاصمة إرهاب عالمي.. فكيف بدا حالها اليوم؟
37 شهرا ظلت خلالها الموصل قابعة تحت قبضة تنظيم "داعش" الإرهابي، الذي اختطف المدينة العراقية على حين غرة، دون أن يخوض معارك تذكر في يونيو/حزيران عام 2014.
بعد مرور عام مضى على تحرير مدينة الحدباء، يدفعك الفضول للتجول في مدينة كانت عاصمة إرهاب عالمي، تسير مسرعا وأنت ترى لافتة إلى مسجد النوري التاريخي الذي أعلن من على منبره أبوبكر البغدادي قيام ما أسماها "دولة الخلافة"، فتجده حطاما فوق حطام بعد أن فخخه الدواعش وفجروه، ولكنك تتفاءل بأن الرعب قد غادر المكان.
- متطوعون بمهمة عاجلة: "إذا لم نعد بناء الموصل ربما يعود داعش"
- في الذكرى الأولى لتحرير الموصل..داعش يهاجم موقعا للشرطة شمالي العراق
تغادر الساحل الأيمن للمدينة والغصة تعتريك بينما تتفقد ذاكرتك رمز المدينة المندثر "منارة أو مئذنة الحدباء"، وتكتشف لوهلة أن المدينة فيها ما يدمي القلب أكثر، فضجيج مليوني شخص لم يعد مثلما كان.
وكأن حطام البيوت والمحال قد ابتلع ذلك الضجيج المحبب الذي أعطى للمدينة اسمها كصلة وصل للتجارة بين البلدان المجاورة، فترى الموصل بعكس اسمها مقطعة متباعدة، والجسور بين شاطئيها فوق نهر دجلة مدمرة.
عائلة هنا وأخرى هناك ترفع الأنقاض بحثا عن بقايا منزل كان يوما من الأيام المأوى والملاذ، تتعثر الأيدي بجثة متحللة لا يعرفون إن كانت لمفقود لهم يترحمون عليه، أم أنها لعنصر من داعش حوّل بيتهم إلى متراس قبل أن تضع الحرب حدا لإرهابه.
يثير الفضول رجل سبعيني، بالكاد ينقل رجليه مشيا، يتأمل بحيرة ويركز النظر الذي تآكل مع السنين وكأنه قد وجد ضالته، لكنه سرعان ما يتابع المسير بخيبة وهو يتنقل بنظره تارة إلى اليمين وأخرى إلى الشمال.
"أبو محمود، جاري شلونك (كيف حالك)، كيف أحوالك".. صوت كسر جلالة التأمل، وأيقظ في أوصال الكهل أملا دفعه إلى عدم التردد في معانقة جاره بعد غياب أعمى لا يعرف فيه كل طرف ما حال الآخر، اقتربت "العين الإخبارية" منهم وشاركتهم لحظة الفرحة تلك، قبل أن يريبهم فضول مراسلها بالسؤال عن قصتهم التي لخصوها بالنظر إليه والتلفظ بلهجة موصلية: "شوف حالنا ويلي (ومن) حولنا وأنت تعرف القصة عيني".
وعادا للعناق قبل أن يدخلا إلى منزل الجار مع دعوة خجولة لي بالتفضل، فاعتذر المراسل بلباقة وتابع سيره.
استرق مراسل "العين الإخبارية" السمع إلى حي مجاور، سمع صوت النرد الذي ألفته أذناه في المقاهي، فهرول نحو الصوت ليجد بضع طاولات وكؤوس الشاي المخمر والنرجيلة العراقية، يتقاسمها ثلة من أبناء المدينة، فابتسم بثقة لأنه يستطيع أن يجلس دون دعوة من أحد أو أن يزعج أحدا.
وما إن طلب فنجان القهوة، حتى نظر الجالسون إليه وحدقوا بأعينهم وكأنه ارتكب جرما للتو، فراجع مفرداته فقال ربما تلفظه باسم تركيا هو السبب، ولكن تبين أن طلب القهوة بحد ذاته يعطي تفصيلا دقيقا على أنه غريب عن المدينة، ليسعده أحدهم حين بادر بطرح الأسئلة عليه، لأنه أدخله إلى العالم الذي احترفه في البحث عن المعلومة كصحفي.
باغته فورا بالقول إنه سعيد بأن يرى المدينة تستعيد عافيتها وأهلها المهجرين منها، ليتحدث كل من كان جالسا باستنكار: "ومن قال لك أن أهل الموصل عادوا؟ هل تعرف الموصل قبل ذلك؟"، فطلبت منهم أن يحدثونه عن ذكرياتهم ما قبل حقبة داعش السوداء، وهذا ما كان بالفعل، بلغة كلها حلم وحنين إلى ماض لن يعود بالمرة.
عرفت "العين الإخبارية" أن العائدين إلى المدينة من أهلها بدأوا بالتزايد في الآونة الأخيرة، خاصة وأن مرحلة رفع الأنقاض قطعت شوطا في بعض الأحياء والمناطق، ولكن عبد الكريم قال إنه لا يستطيع أن يبقى طويلا في المدينة، لأنه يجلس في بيت جاره الذي هاجر إلى أستراليا قبل عامين، واليوم يطلب منه أن يبيع البيت ويرسل له المال لأنه قرر عدم العودة، لينهي عبد الكريم حديثه بأن بيته كان أجمل بكثير قبل أن يتلاشى في الحرب.
أما مجيد حسن فقد كان حاله أفضل نوعا ما، وقد عاد مع عائلته ليجد المنزل على عروشه إلا أنه خال من كل أثاثه وما ضمه من ذكريات، حيث لا يقف مجيد عن ترديد عبارة الحمد لله على ما يراه نعمة كبرى في حياته طالما أن أعمدة البيت موجودة، وهنا يتدخل عامل القهوة في النقاش، ويقول: "أنا أبي ما يرجع لو عطوه بثقل الموصل ذهب".
فنظر إليه المراسل مستغربا، ليجيب قبل أن ينطق ببنت شفة: "أبي قطعوله الدواعش رأس أخي جنب البيت، ورموه بين رجليه، ومن يومها أبوي يحاكي روحه ويهذي باسم أخي ياسر".
انتابت المراسل شجاعة عند هذه اللحظة ومضى يسأل الناس في الطريق وفي البيوت عن عودتهم إلى المدينة، ليجد رقعة الأمل تتسع رويدا رويدا، حين ابتعد بالأحياء أكثر فأكثر نحو الأطراف وعلى سرير النهر، فالتقى بأناس بدأوا حياتهم من جديد، بينما يعج السوق بالعائدين، وكأنهم يريدون رسم المدينة وكتابة تاريخها دون أن يلحظوا مرور تنظيم داعش الإرهابي لطي هذا الصفحة الدموية من ذاكرتهم وذاكرة مستقبلهم.
كل يوم تقريبا تستقبل المدينة حافلات قادمة المخيمات في إقليم كردستان، يقف الناس لاستقبالهم، بانتظار أن يجدوا أحدا يعرفونه، تلتقي بعض العائلات، فيما لا تجد أخرى من يستقبلها، ويخيب ظن بعض الواقفين بانتظار حافلات أخرى على أمل أن يكتمل نصاب المدينة بعد إحصاء من عاد ومن هاجر ومن مات ومن فقد، عندها نستطيع القول إن عاصمة الشمال قد نهضت من تحت الرماد.