يربك الزعيم الشيعي مقتدى الصدر حسابات خصومه في العراق بتعديل تكتيكاته بين لحظة وأخرى، فيما يبدو هدفه واضحا.
فقبل أسابيع كان الصدر يملك الكتلة الوازنة في برلمان البلاد، ورغم انسحابه من المجلس واعتزاله المشهد السياسي يملك اليوم مجلس النواب بحكم الأمر الواقع بعد أن اعتصم أنصاره تحت قبته منذ السبت الماضي.
وحينما يرفع سبابته ويعقد حاجباه، يحبس العراق أنفاسه: فالزعيم الشيعي المتهم بأنه سريع الغضب، يحتفظ بهالة رجل الدين، وبدور يشكل الكفة الراجحة في التوازن السياسي في البلاد.
وأظهر الصدر رجل الدين المعمّم، من جديد لخصومه السياسيين أنه ما زال يتمتّع بقاعدة شعبية واسعة، وأنه قادر على حشد مناصريه من أجل الدفع بأجندته في المشهد السياسي.
ومنذ السبت، يقيم مناصروه اعتصاماً مفتوحاً داخل مجلس النواب. ويؤكد هؤلاء أنهم هناك "طاعة" لزعيمهم، وأنهم لن يغادروا إلا إذا طلب منهم ذلك.
ويرفض الصدر مرشح خصومه السياسيين في الإطار التنسيقي، لرئاسة الوزراء، بعدما ترك لهم مهمة تشكيل الحكومة، إثر استقالة نواب تياره الـ73 من البرلمان، في واحدة من خطواته المفاجئة التي اعتاد القيام لها.
وعبر منصة "تويتر"، يطلق مقتدى الصدر رسائل سياسية كثيرة. وعلى الرغم من أن له صلات وعلاقات في إيران، غالبا ما تثير تعليقاته غضب أولئك المقربين من طهران.
وهو لا يتردد في المطالبة مثلا بحل "المليشيات"، وبدعوة أنصار الحشد الشعبي، الفصائل الموالية لإيران التي رفضت نتائج الانتخابات بعدما سجلت الكتلة الممثلة لها، "الفتح"، تراجعا، إلى وقف الضغط.
احتلال الشارع
ويعتمد الصدر على دعم جمهور لا يستهان به من الطائفة الشيعية، أكبر المكونات في العراق.
ويشرح الباحث في مركز "واشنطن إنستيتوت" حمدي مالك أن الصدر "قادر على احتلال الشارع، وليس لأحد القدرة على منافسته في هذا الميدان".
ويضيف أن الصدر "هو الشخصية المحورية في تياره، وهذا أمر مهم في العراق، حتى لو أنه أحياناً يناقض نفسه ويبدّل مواقفه بين يوم وآخر"، على حد تعبيره.
وأرسل الصدر الآلاف من مناصريه إلى الشارع خلال الاحتجاجات الشعبية في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، لدعم المتظاهرين المطالبين بتغيير الطبقة السياسية الفاسدة. لكنه سرعان ما دعا مناصريه لمغادرة الشارع.. ليدعو بعد ذلك إلى "تجديد الثورة الإصلاحية السلمية".
ويشير الخبير في التيارات الشيعية في جامعة "أرهوس" في الدنمارك بن روبن دكروز إلى أن الصدر "يحاول موضعة نفسه في مركز النظام السياسي، مع أخذ مسافة منه في الوقت نفسه. موقعه كرجل دين يتيح له أن يوهم بأنه أكبر من السياسة".
وشكّلت ملفات مكافحة الفساد وإعمار العراق مواضيع حملته للانتخابات التشريعية المبكرة، فيما لعب أيضاً على الوتر الوطني. ويقدّم نفسه على أنه معارض للنظام ومكافح للفساد، علماً أن الكثير من المنتمين لتياره يتولون مناصب مهمة في الوزارات.
رجل من الكوفة
ولد الصدر في العام 1974 في الكوفة قرب مدينة النجف جنوب بغداد. وجهه مستدير ولحيته غزاها الشيب.
وينحدر الصدر من سلالة رجال دين شيعة، كما يشرح حمدي مالك، لكنه يردف أن "ذلك، وحده، لا يكفي لتفسير مسيرته".
فهو ورث شعبيته الكبيرة من والده محمد صادق الصدر، أبرز رجال الدين الشيعة المعارضين للرئيس الأسبق صدام حسين الذي قتله مع اثنين من أبنائه في العام 1999.
ومنح هذا النسب المرموق دفعا شعبيا لمقتدى الصدر، فكان أحد أبرز الشخصيات التي لعبت دوراً أساسياً في إعادة بناء النظام السياسي بعد سقوط صدام حسين في العام 2003، وقاد إحدى أكثر الحركات الشيعية نفوذاً وشعبية في البلاد.
بدأت مسيرته بمعارك ضارية مع القوات الأميركية التي اجتاحت العراق في 2003، وصولا إلى نزاع حاد مع رئيس الوزراء الشيعي نوري المالكي الذي حكم البلاد بين العامين 2006 و2014.
حلّ بعد ذلك مليشيات "جيش المهدي" المؤلفة من 60 ألف مقاتل، لكنه أعاد تفعيلها بعد اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني مطلع العام 2020 في ضربة عسكرية أميركية في بغداد.
وتبقى علاقته مع إيران إحدى أكثر المسائل إثارة للجدل.
وفي حين تبنى في أعقاب احتجاجات العام 2019 خطاً قريباً من الحشد الشعبي الموالي لإيران، بات الآن يدافع عن خط أكثر "وطنية".
ويرى دكروز أن الصدر "يسعى إلى تسوية مع إيران تسمح له بمنافسة حلفائها على الساحة السياسية مع الخروج في الوقت نفسه عن نطاق سطوتهم"، لكن إيران "لا ترى في الصدر شخصاً يمكن الاعتماد عليه".
ورغم أن شخصيته تحفل بالتناقضات والتقلبات، لكن الجميع، حتى معارضيه، يقرون بأنه لا يزال يحتفظ بقاعدة شعبية قوية تستجيب له. ولا يتوانى هؤلاء عن ملاحقة منتقديه على مواقع التواصل الاجتماعي.