المراقب لسير العلاقة العراقية الإيرانية يعرف أنّ نقطة التحول كانت إبان الغزو الأمريكي عام 2003 ووصول حلفاء طهران إلى سدة الحكم
يبدو أنّ المشهد لم يتغير كثيرا لدى إيران تجاه العراق عقب مقتل قائد فيلق القدس بالحرس الثوري قاسم سليماني وذراعه العراقية أبي مهدي المهندس زعيم مليشيات الحشد الشعبي، قرب العاصمة بغداد، في الثاني من يناير/كانون الثاني 2020.
فالدلولة التي اعتادت على التدخل في الشأن العراقي لم تعتبر من صوت الشارع الرافض لها، خاصة في محافظات الجنوب، حين بات الشعار الأبرز لهؤلاء العراقيين "إيران برا برا"، في إشارة منهم إلى حجم المعاناة التي يعايشونها نتيجة عبث طهران في تفاصيل حياتهم اليومية صغيرها وكبيرها.
في واقع الأمر قد تتخلى إيران عن الكثير من نفوذها غير الشرعي في المنطقة العربية، سواء في لبنان أو اليمن أو حتى سوريا، ولكن هذا ما لن يحدث بالشيء السهل في العراق؛ لأنه البلد الأكثر هشاشة في وضعه الحالي، وبحكّامه المتحالف جزء كبير منهم مع طهران، وهذا ما يجعله المكان المناسب لإيران
لماذا لاتريد إيران فهم رسالة العراقيين المنتفضين ضدها؟
في واقع الأمر قد تتخلى إيران عن الكثير من نفوذها غير الشرعي في المنطقة العربية، سواء في لبنان أو اليمن أو حتى سوريا، ولكن هذا ما لن يحدث بالشيء السهل في العراق؛ لأنه البلد الأكثر هشاشة في وضعه الحالي وبحكّامه المتحالف جزء كبير منهم مع طهران، وهذا ما يجعله المكان المناسب لإيران كي تستثمر كل طاقاتها فيه، سواء بجعله سوقا لتصريف منتجاتها الداخلية الزراعية والصناعية، أو مستهلكا رئيسيا للغاز الإيراني الذي يشتريه العراق بثمن يزيد نحو أربعة أضعاف السعر الحقيقي، وهذا بالطبع سينعكس إيجابا عليها في ظل العقوابات الأمريكية المفروضة على أغلب قطاعاتها، خاصة أنّها تستلم ثمنه بالدينار العراقي.
ليس هذا فحسب.. إذ يشكل العراق خاصرة إيران (راجع الحدود البحرية والبرية بين البلدين)، ولما كانت هذه الدولة ذات أطماع استعمارية تظن أن الآخرين يفكرون بذات الطريقة، بمعنى أنها تخشى في قرارة نفسها مما تسميه في ذهنيتها التوسعية "التهديد العربي"، وهذا ما لم يكن أبدا؛ لأن البلدان العربية من محيطها إلى خليجها ترفض زج نفسها في شؤون الدول الداخلية، باستثناء ما حدث بين نظامي صدام حسين والخميني في ثمانينيات القرن الماضي، والاتهامات المتبادلة بين الطرفين؛ إذ اتهمت طهران بغداد بإعدام الرموز الشيعية المعارضة، في الوقت ذاته العراق كان يتهم إيران بمحاولة تصدير الثورة الإسلامية إلى الدول المجاورة.
ولما كان العراق بوابة إيران على العالم عبر موقعه الاستراتيجي، ظلت تحاول بسط نفوذها فيه وعليه، مستغلة المذهب الشيعي بعد تحولها إليه إبّان الدولة الصفوية، وهذه حقيقة قد لا يعرفها الكثيرون؛ بأنّ العرب الشيعة أقدم من إيران بأكثر من خمسمئة عام، لذلك يرفض كثير من علمائهم التبعية لها، على أساس أنّها الدولة الحامية لحقوق هذه الشريحة من المجتمع الإسلامي ككل، ويدحضون نظريتها القائمة على ولاية الفقيه.
المراقب لسير العلاقة العراقية الإيرانية يعرف أنّ نقطة التحول كانت إبان الغزو الأمريكي عام 2003، ووصول حلفاء طهران من المعارضة العراقية والمدعومين منها إلى سدة الحكم، بمجلس حكم، كان لرجالاتها حصة كبيرة فيه، ومنهم إبراهيم الجعفري أحد أبرز مؤسسي حزب الدعوة، الذي كان يتخذ من إيران مركزا لنشاطه، وحينها قدمت بغداد اعتذارا لطهران، عما وصفه آنذاك وزير الدفاع العراقي سعدون الدليمي بـ"جرائم صدام" ضد إيران، وعلى إثرها تم توقيع اتفاقيات التعاون العسكري بين البلدين، وتعبتر هذه النقطة الرئيسية في بداية التدخل الإيراني المباشر في الشأن العراقي.
صحيح أن العلاقات استمرت بالتحسن بدءاً من عهد رئيس الوزراء الأسبق إبراهيم الجعفري 2005-2006، لتتوثق أكثر في عهد نوري المالكي في ولايتيه اللتين امتددا من 2006 إلى 2014، لتصل مرحلة وُضع العراق ورقة بيد المرشد الإيراني، يقلبها كيفما شاء، وبما يفيد الصالح الإيراني، ولا شكّ أن المساعد في ذلك هو الحاكم التنفيذي المالكي ومن كان تحت عباءته من حلفاء البيت الشيعي، وما يعرف بـ"سنّة المالكي"، ولكن ثمة فترة شعرت إيران بالخطر جراء تقليم أظافرها في العراق، وهذا ما نستطيع الحديث عنه ولو جزئيا زمن تولي حيدر العبادي منصب رئاسة الوزراء، فالرجل استطاع ولو نسبيا النأي ببلاده عن الصراعات الدولية على العراق رغم شديد الضغوط الإيرانية التي وصلت إلى حد حرمانه ولاية ثانية، بنشرها الرعب بين من يصوت له مرة ثانية، ودفعها الكثير من الأموال في سبيل عدم حدوث ذلك، وهذا ما تحدث به العبادي شخصيا، وتمّ على أرض الواقع برفض أغلب القوى توليه المنصب لفترة ثانية، ولا يمكن نسيان فترة أياد علاوي عام 2004 ولكنها لم تعمر كثيرا.
من فترة العبادي يمكن التوقف عند نقطة تكاد تكون الأكثر أهمية في تاريخ العراق الحديث، وهي الاسقلالية عن الهيمنة الإيرانية التي باتت أغصانها تنمو أكثر ليس لدى حكام الصّف الأول، وإنّما في قيادات الصف الثاني داخل الكتل العراقية التي حاولت طهران تجميع شتاتها من خلال إيفادها خليفة "سليماني" إسماعيل قاآني إلى العراق، ومحاولاته التي وإن استطاعت تجميع أركان البيت الشيعي إلا أنّها اصطدمت بالرافضين الهيمنة والإملاءات الإيرانية، وعليه نصل إلى نقطة الحقيقة، بأنّ لحظة تخليص العراق من الهيمنة الإيرانية بات أقرب بكثير مما نتوقع، خاصة بعد علاء صوت أبناء محافظات النجف والبصرة وكربلاء ضد الوجود الإيراني داخل العراق، وهذا ما لايريد تصديقه الإيرانيون، الذي قال أحد كبار مسؤوليهم في 2015؛ وهو علي يونسي مستشار الرئيس الإيراني حسن روحاني: "إن إيران اليوم أصبحت إمبراطورية كما كانت عبر التاريخ وعاصمتها بغداد حاليا".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة