ما قاله الجواهري العظيم بأن العدو "حديد الناب مفترس حقود" يكشف كم هو صادق حدس الشاعر، الذي تتكشف له الأشياء أكثر من غيره
"سينهض من صميم اليأس جيل عنيد البأس" تلك صيحات يرددها شباب العراق الثائر في ميادين وساحات بغداد" التحرير-الخلاني-السنك"، وفي الناصرية والنجف وكربلاء وباقي مدن الجنوب الثائر.
كيف للجينات أن تهزم الوعي المشوش، وتكسر اليقين المشوه؟ هي إذا حكمة الشعوب العظيمة والعريقة والضاربة في الوجود، شعوب التاريخ والحضارة والوعي، حمورابي وهارون الرشيدتلك صيحات رصاص، من وحي شعر معجون بالعراق، يحمل بصمات شاعر كبير، جعل من القصيدة براحا يحجم بغداد، إنه "محمد مهدي الجواهري ":
سينهض من صميم اليأس جيل عنيد اليأس
جيل عنيد البأس
يقايض ما يكون بما يُرجى
ويعطف ما يُراد لما يريد
تلك الأبيات تخطت مع صيحات هذا الجيل حدود القصيدة والشعر، لتتحول إلى صرخة تزلزل بيوت الطواغيت والفاسدين والخونة والمأجورين، إنها أنشودة الخصب، وتراتيل البعث التي غناها جلجامش، وحمورابي، وصرخ بها دجلة والفرات.
إن عمر هذه القصيدة يحمل بعدا تراجيديا دراميا ليس في العراق فقط، بل في العالم العربي أجمع، تلك قصيدة بحجم أزمة، قصيدة "فتيان الخليج" التي ألقاها الجواهري في "أبوظبي" عام 1979، موجها صرخته إلى شباب الخليج بعراقه ويمنه يحذرهم من شر قادم، يقول لهم:
حذاري بني الخليج فثم وحش
حديد الناب مفترس حقود
خبيث الكيل في شرك خفي
يصيد عوالما فيما يصيد
يغازلكم مروادة ويغزي
سواحلكم أساطيلا ترود
الجواهري الذي يحذر عام 1979 في تلك القصيدة من وحش يريد أن يغزوا سواحلنا، كان ذلك الوحش في مهد ميلاده الأول، في هذا العام الذي أطلق الجواهري صرخته هذه كانت ثورة الخميني تجتاح إيران، وكان في رحم الأزمة القاتلة ثمة نبت شيطاني يتكون، أنجب للمنطقة المزيد من الكوارث.
ولعل ما قاله الجواهري العظيم رحمة الله عليه بأن العدو "حديد الناب مفترس حقود" يكشف كم هو صادق حدس الشاعر، الذي تتكشف له الأشياء أكثر من غيره.
لماذا هذه القصيدة بالذات تحيا من جديد في ميادين العراق؟ لماذا تتلقفها الحناجر وتطلقها كبارود على الفاسدين؟ لماذا تبعث من جديد على الرغم من أن القصيدة عمرها أطول من عمر الجيل الذي يرددها الآن؟ ولماذا هذه القصيدة بالذات من فيض شعر الجواهري هي التي يتم استدعاؤها؟
إننا أمام جينات في الشعب العراقي تتوارثها الأجيال، جينات تتحكم في مخزون كرامتهم ووعيهم وقد لا يعرفون سرها، هل آتية من حمورابي أم من دجلة؟ إن الجيل الذي يثور الآن هو جيل الألفية الثالثة، جيل تفتحت عينياه طفلا على احتلال بلاده، وعلى معارضة جاءت من الخارج على ظهر دبابة المحتل، وعلى قيم مستعارة من قلوب حاقدة أكثر من كونها آتية من عقول معارضة.
هذا الجيل هو جيل اللخبطة الكبرى، تفتح وعيه على تداخل المفاهيم العقيمة، على الترويج للغة الاستباحة والهوان والذل، حين أصبح الخائن حاكما، وأصبح العميل وزيرا، وأصبح الفاسد سيدا للأعمال، رأى لغة بلده العربية تتلاشى أمام اللغة الفارسية، رأى شوارع العراق الأبي تنفض عنها ملامح عروبتها، حتى اليافطات في الشارع أصبح معظمها هجيناً على العربية.
وانقسم العراق إلى "أقلية وأكثرية"، وهو الذي ما عرف يوما فروقا في الدين ولا في العرق، ولعل أبناء الأسر العراقية الذين ولدوا قبل الاحتلال خير دليل على تلك اللحمة، ستجد الأب سنيا والأم شيعية أو العكس، ستجد العرب والكرد، ستجد الأرمن والمسيحيين والأشوريين والكلدان، ستجد العراق في فسيفسائية جميلة كلوحة تاريخية.
نمى هذا الجيل وسط منظومة التشويش والتشويه، فاقدا بوصلته العروبية والعراقية بكل تنوعاته الجميلة، فحدث انفصام مخيف بينه وبين أهم شيء في الوجود وهو الوطن، فألغى بكامل إرادته مواطنته وحل محلها طائفيته أو عرقيته، وروج الذين أداروا تلك المنظومة للعداء بين الأعراق والطوائف وزرعوا الخوف في داخل كل طرف من الآخر.
وراحوا يقدمون الأحلام في ثوب رشا مادية وأمنيات بالعيش الرغيد، ومع الوقت، أو مع الوعي، ومع التجربة اكتشف ذلك الجيل الجديد زيف ما يدعون، وأحسوا بقيمة وطن أوشك أن يضيع وهم يرون "قاسم سليماني وعملاءه" يتجولون في العراق، يستنزفون خيراته.
وهنا حدث صراع الوعي والتنوير الفطري لهذا الشعب، صراع العقل المغيب، مع المشاعر العراقية التي شربوها من ماء دجلة، ومن رائحة النجف البهية، وكربلاء التي تصدح فيها تراتيل الحزن منذ مقتل الحسين، وبعد صراع طويل تطغى الجينات على الوعي المشوش والقلب الحزين.
لتنهض من جديد ملبية صرخة الجواهري فينهض من صميم اليأس جيل عنيد يرفض الوضع الذي فُرض عليه ويغير ما كان يراد له ويحاك له في دهاليز فارس.
ولكن كيف للجينات أن تهزم الوعي المشوش وتكسر اليقين المشوه؟ هي إذا حكمة الشعوب العظيمة والعريقة والضاربة في الوجود، شعوب التاريخ والحضارة والوعي، حمورابي وهارون الرشيد.
شعوب لديها مناعة من التسطيح والعمالة، تلفظ من جسدها الملوثين، كيف لجيل العراق أن يكون لديه وعي وهو الذي تكالب عليه الجميع؟
منذ بداية التسعينيات وهو محاصر من أجل ترويضه بالجوع، وفي النهاية اكتشفوا أن الترويض بالجوع لا يجدي مع شعب مثل العراق، فلجأوا إلى ترويضه بالسلاح والغزو فاحتلوه في 2003، فقاوم وصمد ولم يعترف بهزيمة جلبتها الخيانة وروج لها الخونة.
فلجأوا في 2005 إلى لعبة التشوية والتشويش، وهي من أخبث الألعاب؛ لأنها تعبث بخيوط الوعي الخاصة بالشعوب، وللأسف نجحوا في ذلك عبر فيروس الطائفية والمذهبية والعرقية. لكن مع مرور الوقت كان عقل هذا الجيل يتعافى، وكانت جيناته تقوى وتنتصر، حتى وصلنا إلى تلك الثورة التي انطلق فيها الوعي.
ولعل أبرز المحطات التي تمثل انعكاسا حقيقيا لوعي هذا الجيل العراقي الثائر: أولا الهتافات، فبقليل من تحليل المضمون لبعض ما ردده الثوار في الميادين نكتشف أن هذا الجيل يعرف بالاسم رموز أزمته، ويعرف كيف الخلاص "بغداد حرة حرة.. إيران برا برا"، تلك صيحة صنعتها الجينات المستفيقة من غيبتها، فحرية بغداد لن تأتي إلا بخروج إيران.
ثانيا: المتغير المهم في رأي هو المحافظات والمدن التي أشعلت فتيل التظاهر وواصلت الثورة، وهي المدن والمحفاظات الجنوبية الشيعية التي اختطفها السياسيون لحسابات طائفية، لأكثرية وأقلية بغيضة، تلك المحافظات التي كانت يوما وقودهم، ونارهم أيضا.
ثالثا: الأهداف التي ثار عليها المتظاهرون واستهدفوها بشعارتهم، وأهمها هنا القنصلية الإيرانية في النجف، فلقد اعتبر إحراق هذه القنصلية وهروب البعثة الدبلوماسية الدليل الأبرز على شفاء المواطن العراقي الجنوبي من تبعيته.
رابعا وهذا هو المهم الصمود والجرأة والخروج من قمقم الخوف، فالشباب وبعد مجزرتين كبيرتين، واحدة في الناصرية والأخرى في ساحة الخلاني، وأمام سلسلة من اغتيالات الناشطين وخطفهم وترهيبهم، أمام كل هذا ما زال ذلك الجيل صامدا صمود الوعي الجيني، والوعي الحضاري والوعي التاريخي والوعي الجغرافي، وليس وعي الكتب والحوزات.
لقد نهض الجيل، ولن يعود إلى قمقم الخوف والتبعية من جديد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة