هل ينجح مقتدى الصدر في تلبية مطالب العراقيين الذين علقوا آمالهم عليه؟ وهل يمكن أن يتجاهل أصوات إيران التي تمثلها القوى التي تحالف معها؟
مسرحية "جودو" لصموئيل بيكت تجسّد الحالة العراقية، حيث الحكاية تدور حول رجلين؛ هما فلاديمير واستراجون ينتظران شخصاً ثالثاً يدعى جودو لا يأتي أبداً.. "جودو" أصبح الأمل العراقي المنتظر الذي لا يأتي. كان العراقيون ينتظرون الانتخابات الفائتة على أحر من الجمر من أجل تغيير الأوضاع السابقة، لكن حالات التزوير أثبطت عزائمهم وحماستهم، فلا الفرز الإلكتروني أفادهم ولا الفرز اليدوي اللاحق، ومهما يُقال عن هذا الشأن، ومهما أفتت به التطمينات، فلا شيء سيتغيّر.
والنتيجة: العراقيون خسروا معركة الانتخابات، وفاز بها الذين زوروا الحقائق ومرروا القانون الخفي. تقاسم الكعكة بين الكتل الكبيرة، كأنها عملية تقاسم الغنائم بين الكتل الكبيرة أو فقدانها للسلطة. إذا كانت الكتل الكبيرة هي التي تقرر الحياة السياسية في العراق، فما معنى الانتخابات، لأن أوضاعها لن تتغيّر لا قبل الانتخابات ولا بعدها. ذلك لأن النظام الانتخابي يعمل على إعادة تدوير الوجوه نفسها، وطرحها على المشهد السياسي الجديد بقوة ناعمة وساحرة هي الانتخابات. ولكي يفهم القارئ غير العراقي تعقيدات المشهد السياسي، نعيد إلى الأذهان أن 27 تحالفا أو كتلة انتخابية شاركت في العملية الانتخابية وشملت 205 كيانات انتخابية، لم يتمكن أيٌّ منها الحصول على الأغلبية التي تسمح له بتشكيل الحكومة (ينص القانون العراقي على أن الكتل المتحالفة بعد نتائج الانتخابات والتي تحوز على 50 بالمئة + 1 من مقاعد البرلمان يكون لها الحق في تشكيل الحكومة).
ماذا يعني ذلك؟ القوى التي تحكم منذ عام 2003 هي التي تفوز في الانتخابات منذ انطلاقها، ومهما كانت الانتخابات سواء تم تزويرها أم لا، فإنها تهيمن على نسبة 85 بالمئة من مقاعد البرلمان، تتوزع القوى الشيعية على 4 تحالفات رئيسية، والكتل السنيّة على تحالفات أخرى وكذلك الأكراد والأقليات الأخرى.
هل ينجح مقتدى الصدر في تلبية مطالب العراقيين الذين علقوا آمالهم عليه؟ وهل يمكن أن يتجاهل أصوات إيران التي تمثلها القوى التي تحالف معها أمثال العامري والمالكي والحكيم؟ وهل يمكن أن يتم تشكيل الحكومة العراقية المقبلة بعيداً عن الاستقطابات الإقليمية والدولية
تعيش الكتل السياسية حالة صراع خفي ومعلن فيما بينها، وذلك حسب مصالحها الآنية والدائمة. ولا تزال الانقسامات العرقية الطائفية تلقي بظلالها على المشهد السياسي. مقتدى الصدر الذي فازت كتلته "سائرون" في الانتخابات فتح الباب واسعاً أمام التحالفات حتى لو كانت ضد آرائه وأفكاره السياسية والعقائدية، فهو يتحالف مع ألد أعدائه هادي العامري ونوري المالكي وحيدر العبادي وعمار الحكيم وإياد علاوي، وقد انتقدهم في مناسبات عديدة، بل ووصف مليشياتهم بالوقحة، والحكومة بالفاسدة، وجنّد أربعة ملايين متظاهر في ساحة التحرير، جرح بعضهم وقتل البعض الآخر أثناء زحفهم إلى المنطقة الخضراء. فهل يتمكن مقتدى الصدر أن يحقق آمال أنصاره في الإصلاح وتشكيل حكومة تكنوقراط؟
كان زعيم تحالف "الفتح" هادي العامري، رئيس مليشيات الحشد الشعبي، يحلم بالحصول على منصب رئاسة الحكومة، لكن إقدام تحالف مقتدى الصدر مع تحالف "النصر" بقيادة حيدر العبادي، أطاح بآمال العامري بتولي رئاسة الحكومة المقبل، وهو الحلم الذي يراود إيران. قبل تحالفات مقتدى الصدر كانت إيران هلعة من نتائج الانتخابات العراقية، وحاولت جاهدة أن تدعم رجلها الأول هادي العامري في تحالف "ائتلاف الفتح". ومما يزيد هذه التحالفات تعقيدا وغموضا هو العامل الإقليمي والدولي، أي إيران والولايات المتحدة وكلتاهما تريد الحفاظ على توازنها في المنطقة لأسباب استراتيجية، خاصة إيران التي تسعى إلى تحقيق مشروعها في زعزعة المنطقة العربية، وأبرزها مساندتها مليشيات الحوثيين في اليمن.
والسؤال الذي يطرحه العراقيون بعد جدل التحالفات، ما هو شكل الحكومة المقبلة؟
لا أحد قادر على الإجابة عن هذا السؤال لأن القرار ليس بيد حزب واحد أو كتلة واحدة، إنهم مثل الدومينو إذا سقط حجر واحد، تسقط الأحجار الأخرى. وهم أدركوا هذه الحقيقة، أي أن سلطتهم مهددة إذا لم يتحالفوا. تشكيل الحكومة العراقية المقبلة تُطبخ على نار هادئة، لا يفكر العراقيون في نتائج الانتخابات بقدر ما يفكرون بالتحالفات بين الأحزاب والكتل الكبيرة التي تقرر حياتهم السياسية المقبلة. لا أحد يتخلى عن السلطة، حتى نوري المالكي، الذي سقطت حكومته بعد فضائح مدويّة، يسعى إلى العودة للساحة السياسية من جديد، على الرغم من أن "ائتلاف دولة القانون" الذي يقوده جاء في المرتبة الخامسة، لأن الحيلة التي يفكر بها هي التحالفات التي تضمن له جزءاً من الكعكة.
ومن المضحك المبكي أن الأحزاب والكتل المتسلطة أصبحت تنادي بالإعمار ومحاسبة الفاسدين وإيواء النازحين وإعمار المدن المدمرة وغيرها من الشعارات. لذلك، لا تزال ومن أجل الحفاظ على مصالحا، تسعى الآن الأحزاب والكتل السياسية إلى هندسة تحالفاتها من أجل القبض على زمام أمور السلطة من أجل تشكيل الكتلة الأكبر التي تتحكم في مصائر العراقيين على مدى السنوات الأربع المقبلة. فهناك تحالفات ثنائية وثلاثية تفضي بالتالي إلى التوافق المصلحي بينها، وكلها تسعى للتحالف مع "سائرون" لثقلها السياسي والعددي باعتبارها الأقوى على الساحة العراقية.
أما على الصعيد الدولي، فإن واشنطن تريد إعادة ترشيح العبادي، وإيجاد تحالفات سياسية تفضي إلى دعمه وإسناده، لكن من المستبعد أن يتحالف العبادي مع المالكي أو العامري لكنه أقرب إلى التحالف مع ائتلاف "سائرون".
ولكن السؤال المطروح هنا: هل يستطيع تحالف "سائرون" أن يحافظ على برامجه المعلنة لو عقد تحالفاته مع حيدر العبادي وعمّار الحكيم وهادي العامري وإياد علاوي ونوري المالكي؟
على أية حال، مهما كانت النتائج، فإن آمال العراقيين تبددت، وتبقى شعارات "سائرون" حبراً على ورق، ولا يمكن تطبيقها على أرض الواقع في جميع المجالات التي رفع فيها شعاراته: لا محاربة الفساد ولا تشكيل حكومة تكنوقراط، ولا الخروج من الطائفية، ولا الابتعاد عن دعم إيران، ولا عدم الخضوع للهيمنة الأمريكية.
ما الذي تغيّر إذاً في كفة الموازين؟
يتساءل العراقيون.. أين ذهبت أصواتهم؟ لا أحد يمتلك الإجابة.
ملامح الحكومة المقبلة في العراق واضحة بعد أن أفصحت الأحزاب والكتل الرئيسية عن توجهاتها في التحالفات، لأنها لو لم تعقدها لفقدت السلطة على الفور. وصحيحٌ ما يُقال: لا توجد صداقة دائمة ولا عداوة دائمة في السياسة.
هل ينجح مقتدى الصدر في تلبية مطالب العراقيين الذين علقوا آمالهم عليه؟ وهل يمكن أن يتجاهل أصوات إيران التي تمثلها القوى التي تحالف معها أمثال العامري والمالكي والحكيم؟ وهل يمكن أن يتم تشكيل الحكومة العراقية المقبلة بعيداً عن الاستقطابات الإقليمية والدولية في ظل التوتر الحاصل حالياً بين إيران والولايات المتحدة.
هل ينتظر العراقيون "جودو" الذي لن يأتي أبداً؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة