المعركة ليست عسكرية فقط بل وربما ليست المعركة العسكرية إلا جزءا بسيطا من المعركة فالصراع فكري بامتياز.
بعد عدة سنوات من الحرب على الإرهاب شنها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بات تنظيم "داعش" المتطرف في مرحلة لفظ الأنفاس الأخيرة، فقد أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" وقوات سوريا الديمقراطية "قسد" قبل أيام القضاء على آخر جيب لتنظيم "داعش" في سوريا وتحديدا في محافظة دير الزور شرق البلاد على الحدود السورية العراقية، تنظيم "داعش" الإرهابي الذي كان كابوسا مؤرّقا للعالم أجمع يحتضر بعد ما يزيد على خمس سنوات سيطر فيها التنظيم على مساحات واسعة ومحافظات بأكملها في سوريا والعراق، حتى صار القضية الكبرى لجميع دول العالم في القرن الواحد والعشرين، ولكن السؤال الذي لا بد من طرحه هو: هل انتهى التنظيم فعلاً؟ وهل الانتصار العسكري على مثل هذا التنظيمات وتشتت عناصرها بين قتيل وسجين وفارّ كافٍ؟ وهل حقاً المعركة عسكرية فقط مع هكذا جماعات؟
اليوم العالم أجمع في اختبار صعب بعد القضاء على التنظيم عسكريا ولا بد من أن تؤخذ المعركة بجانبها الفكري على محمل الجد والعمل على تكريس العدالة الاجتماعية والتقرب من شريحة الشباب ودمجها لتكون فاعلة في مجتمعاتها واستغلال طاقاتها المتمثلة بعنفوان الشباب
لا شكّ بأن الجواب عن كل الأسئلة التي طُرحت أعلاه هو النفي بـ"لا"، وأنّ الانتصار العسكري ما هو إلا معالجة للنتائج وحل إسعافي مؤقت لمثل هذه القضية، وما هذه التنظيمات إلا نتيجة لأسباب عدة فقد اعتاد العالم أن ينام بأمان ليستيقظ على تنظيم إرهابي قد انتشر ضارباً في مكان وزمان غير معلومين من قبل، لتهرع الجيوش والتحالفات الدولية لضربه وإرجاع الوضع إلى السيطرة بأثمان باهظة كتدمير الدول وزهق الأرواح، وهكذا في كل مرة تظهر فيها جماعة مثل هذه الجماعات المتطرفة يتم التصدي لها بالضربات العسكرية والإعدام لعناصر التنظيم أو اعتقالهم، ولكن هذه الحلول لم تسهم في القضاء عليها أو الحيلولة دون ظهورها مرة أخرى، فالانتصار العسكري وقتل العناصر أو اعتقالهم ليس إلا انتصارا مؤقتا تختفي فيه بقية العناصر الفارّة حتى تعيد تنظيم نفسها من جديد وإعادة الكرة أما الاعتقال والسجن فلم يفلح يوما في كبح جماح هذه الجماعات فجلّ قادة التنظيم من المعتقلين سابقاً ولمرّات عدة؛ بل إن هذه الجماعات تعدّ المعتقلين السابقين ممن يحق لهم دون غيرهم قيادة التنظيم وليس البغدادي "زعيم داعش" عن ذلك ببعيد فهو معتقل سابق وأمثاله كثر فلم يكن السجن لهم إلا فرصة لإعادة ترتيب الأوراق والعودة من جديد بأشكال مختلفة وأكثر تطرفا وضراوة من قبل، فما الحل الناجع للتخلص من مثل هذه التنظيمات؟
المعركة ليست عسكرية فقط بل وربما ليست المعركة العسكرية إلا جزءا بسيطا من المعركة، فالصراع فكري بامتياز لذا فمن الواجب معرفة أسباب هذا الصراع ودراستها بجدية لمعالجة المسببات التي توصل إلى مثل هذه النتائج من التطرف والإرهاب، ومن هذه الأسباب على سبيل التمثيل لا الحصر وفي مراجعة بسيطة لطريقة عمل هذه الجماعات في التجنيد وجذب العناصر نجد أن الفئة المستهدفة عموما شريحة الشباب بين الـ20 والـ35 من العمر وليس أي شباب بل من الشباب المتعلّم، ففي دراسة أجراها "البنك الدولي" ونشرتها صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية إن معدل الأعمار في تنظيم داعش (27.4) سنوات وجلهم من المتعلمين بل والحاملين للشهادات العليا وبحسب الدراسة ذاتها، فإن نسبة الأمية بين عناصر التنظيم لا تتجاوز 1.3% والمثير للجدل في هذه الدراسة أن الذين يسعون من عناصر التنظيم إلى تمكينه وتولي الأعمال الإدارية لاستمراره والذين يرغبون منهم بتنفيذ عمليات انتحارية ترتفع نسبهم بارتفاع المستوى التعليمي, ومعنى ذلك أن هذه التنظيمات لا تستغل الجهلة والسٌّذّج "كما في الخطاب الرسمي السائد في الدول التي تعزو هذا الأمر إلى الجهل" لرفد التنظيم بالموارد البشرية وتجنيد العناصر، فما الذي يدفع مثل هؤلاء الشباب في مقتبل العمر وعلى مستوى تعليمي جيد بل وممتاز أحيانا للانخراط في مثل هذه التنظيمات؟
ضمن تلك المعطيات ومعرفة الفئة المستهدفة عمرياً وعلمياً لا يمكن أن يكون الحل بالمعركة العسكرية فقط ولنا في التجارب السابقة خير أمثلة، فـ"داعش" ليس التنظيم الأول ولن يكون الأخير إن لم تُنجز المعركة بجانبها الفكري والاضطلاع بالحلول الجذرية، فهؤلاء الشباب في معظمهم من المتعلمين ولكنهم مهمشون لم يجدوا الفرص المناسبة لاستغلال طاقاتهم وإمكاناتهم العلمية في وظائف ومؤسسات الدول التي ينحدرون منها ما جعلهم في نقمة على كل ما يتصل بواقعهم الذي جعلهم كما لو أنهم لا وجود لهم، فعاشوا في فراغ وعزلة اجتماعية والشعور ألا دور لهم في هذه الحياة، وهذه أهم نقطة ضعف تستغلها التنظيمات الإرهابية في التجنيد وذلك بنقل الشاب من هذه العزلة والشعور بالإحباط واليأس والفراغ إلى جعله قائدا وأميرا وعنصرا فاعلا ضمن تنظيماتهم المتطرفة بالإضافة إلى اللعب على الشعور الديني، وأن التخلص من هذا الفراغ لا يكون إلا بنهاية الحياة فإذا كان لا بد من نهايتها فلتكن في سبيل هدف ديني، وذلك باستغلال ضعف التعليم الديني والتوعية الشرعية في الدول المستهدفة من قبل هذه التنظيمات في التجنيد ويضاف إلى ذلك عدم اهتمام تلك الدول بدعم المؤسسات الشرعية الحقّة لتبيان رسالة الدين التي قوامها التسامح والسلام والمحبة, واستمرار الأسلوب ذاته من الخطاب البعيد المتمثل بالظهور الإعلامي والشعارات الذي غدا مستهلكاً وغير مقنع، فلا مناص من تطوير تلك الأدوات والعمل على تكريس الخطاب الواقعي القريب الذي يتمثل بالظهور المباشر بين الشباب وإشراكهم في الخطاب مناقشة وحضورا وإبداء للآراء واستنباط الحلول منهم أنفسهم؛ لأنهم هم المستهدفون بالدرجة الأولى وإلا ما الذي يدفع شابا بريطانيا -مثلا- نشأ في دولة متطورة متلقيا التعليم الممتاز في أرقى مدارس وجامعات العالم منحدرا من مجتمع يعد من أكثر المجتمعات حضارة وثقافة ورقيّا؛ لأن ينضوي مقاتلا في مثل هذا التنظيم؟ لم يدفعه إلا الفراغ والتهميش والشعور بأن لا مكان له ليكون فاعلا مستغلا لطاقاته فما بالنا بمجتمعات ودول أقل من ذلك تطورا وحضارة وأكثر من ذلك بكثير تهميشا لتلك الشريحة من الشباب!
اليوم العالم أجمع في اختبار صعب بعد القضاء على التنظيم عسكريا ولا بد من أن تؤخذ المعركة بجانبها الفكري على محمل الجد والعمل على تكريس العدالة الاجتماعية والتقرب من شريحة الشباب ودمجها لتكون فاعلة في مجتمعاتها واستغلال طاقاتها المتمثلة بعنفوان الشباب والمستوى التعليمي الذي وصلت إليه كي لا يكون الشباب صيدا سهلا لتلك الجماعات الظلامية بالإضافة إلى وجوب دعم المؤسسات الاجتماعية والدينية الوسطية وتطوير خطابها ليوازي الخطاب الذي تنتهجه تلك الجماعات والتي تعمل على تطويره باستمرار، كما يجب نقل عمل تلك المؤسسات على أرض الواقع، ولا سيما في الأماكن التي خرجت للتو من سيطرة هذا التنظيم المتطرف بعد أن رزحت تحت نِيره لسنوات عدة مخلفا فيها جيلا كاملا من الشباب والأطفال الذين نشأوا في كنف فكره وتعاليمه وإلا لن يكون التنظيم سوى نار تحت الرماد ما إن تهب عليها ريح التطرف حتى تشب من جديد .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة