في مقالنا السابق قلنا إن جو بايدن عندما دخل "البيت الأبيض" لم يكن مطلوبا منه سوى مهمة واحدة، وهي ألا يكون دونالد ترامب، وهي ربما تكون أسهل مهمة لرئيس أمريكي على الإطلاق.
وكان السؤال: هل نجح في ذلك؟
وكانت الإجابة أنه بعد استعراض سياسته الداخلية خلال العام الأول المنصرم من حكم إدارته، وبعد أن كان من المفترض والمتوقع أن يكون "بايدن" أفضل من سلفه، لكن حصاد عام واحد فقط جعل ترامب في نظر كثير من الأمريكيين يبدو الرئيس الأفضل، ويبدو المرشح الجمهوري الأكثر حظا حتى اللحظة في انتخابات 2024، بل أصبح بعضهم يرى الآن أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة لم تأت سوى بنسخة يسارية من الترامبية، فما المانع إذًا من العودة للنسخة الأصلية في الانتخابات المقبلة وإعطاء ترامب فرصة ثانية لمحاولة جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى.
هذا داخليا، وهو ما يهم الناخب الأمريكي بشكل أكبر.. أما على سبيل السياسة الخارجية، وهو ما يهم العالم ويهمنا في المنطقة أكثر، فلم يختلف الأمر كثيرا، بل ربما يزيد هامش تفوق ترامب على بايدن بشكل أكبر مما هي عليه الحال في السياسات الداخلية، ولعل نظرة سريعة على ما وصلت إليه حال العالم والإقليم الآن، وبعد عام من جلوس بايدن على المكتب البيضاوي، يمكن أن يعطينا مؤشرات واضحة إلى أين ستمضي الثلاث سنوات المقبلة.
وإذا بدأنا بما يهمنا في منطقة الشرق الأوسط سنرصد دون عناء زيادة المتاعب التي تعانيها المنطقة وزيادة التهديد لأمن واستقرار دولها الرئيسية واهتزاز ثقة أهم حلفاء واشنطن بها وتخوفهم من تراجعها عن الوفاء بالتزاماتها تجاه أمن المنطقة نتيجة ترددها حيال الكثير من الملفات المتعلقة بالمنطقة، وأبرزها طريقة التعاطي مع السلوك الإيراني في الإقليم وتداعياته، وهي الطريقة التي شهدت تباينا كبيرا بين إدارتي ترامب وبايدن.
فربما كانت أبرز النجاحات التي حققتها إدارة ترامب في مجال السياسة الخارجية، هو تبنيها منذ أيامها الأولى رؤية شاملة ومغايرة لطبيعة الخطر الإيراني لا تحصره في شقه النووي، ولكنها تضع في الحسبان جميع تجليات السلوك الإيراني العدائي في المنطقة، كتدخله في شؤون دول المنطقة وتهديده أمن الحلفاء التقليديين لواشنطن ودعمه مليشيات مسلحة وجماعات إرهابية، لذا لم يكتفِ ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي المعيب مع إيران في مايو 2018، بل حاول تشكيل تحالف دولي بهدف مراقبة النظام الإيراني من خلال منظور أكثر واقعية، ليس من خلال منظور الاتفاق النووي فقط، بل من خلال كل أنشطته المزعزعة للاستقرار التي لا تشكل تهديداً للمنطقة فحسب، بل للعالم أجمع، حسب تعبير وزير الخارجية وقتها، مايك بومبيو، وأعلن استعداده للتفاوض معه على "اتفاق جديد" أوسع بكثير من اتفاق 2015، ولكن أكثر صرامة بهدف تغيير سلوك إيران المزعزع لأمن واستقرار المنطقة ودورها في تأجيج صراعات الشرق الأوسط وتهديد أمن واستقرار دول الجوار، وبرنامجها للصواريخ الباليستية، وهو ما كان يعكس إدراكا أمريكيا وقتها لحقيقة أن خطر إيران في سلوكها ومشروعها وليس فقط في برنامجها النووي.. لذا سعت لصياغة مقاربة شاملة تتعامل مع المشروع الإيراني برمته وليس فقط مع تجلياته النووية، ولهذا لم تكتفِ إدارة ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي، لكنها أتبعت ذلك بخطوات أكثر أهمية كان آخرها قبل عشرة أيام فقط من انتهاء ولايتها، عندما اتخذت قرارها بتصنيف جماعة "أنصار الله" الحوثية في اليمن على قائمتها السوداء للجماعات "الإرهابية" وإدراج ثلاثة من قادتها على قائمة الإرهابيين الدوليين، بهدف "تعزيز الجهود للوصول إلى يمن موحد وذي سيادة بعيدا عن التدخل الإيراني وفي سلام مع جيرانه".. "وتوفير أدوات إضافية لمواجهة النشاط الإرهابي الذي تمارسه جماعة أنصار الله"، بما في ذلك الهجمات العابرة للحدود، التي تهدد السكان المدنيين والبنية التحتية والنقل البحري التجاري.
وعلى الرغم من أن القرار لاقى وقتها ترحيبا إقليميا ودوليا واسعا، فإنه لم يجد فرصة للتنفيذ بعد أن كان إلغاؤه من أوائل القرارات التي اتخذتها إدارة بايدن بعد أيام قليلة من توليها دفة الأمور في "البيت الأبيض".
ولم يكن قرار حذف الحوثيين من قائمة المنظمات الإرهابية هو الوحيد من إدارة بايدن في هذا الاتجاه، بل سبقه بيوم واحد، وتحديدا في الخامس من فبراير من العام الماضي، إعلان بايدن نهاية الدعم الأمريكي لعمليات التحالف العربي، الذي تقوده السعودية في اليمن، الأمر الذي أعطى إشارات على الموقف المتردد للإدارة الأمريكية الجديدة حيال ملف من أكثر الملفات تأثيرا على أمن واستقرار المنطقة، وهو الأمر الذي زاد من إرهاب الحوثيين وأطلق العنان لأعمالهم الإجرامية وصواريخهم الباليستية وطائراتهم المسيّرة لتصل إلى العاصمة السعودية ومن بعدها العاصمة الإماراتية وتهدد أمن واستقرار اثنين من أهم حلفاء واشنطن في المنطقة.
أما الصفقة النووية المعيبة التي انسحب منها ترامب في 2015، والتي كانت سببا مباشرا في انطلاق المشروع التوسعي لإيران في المنطقة بسرعة أكبر بعد أن حررتها من العقوبات التي كانت تعرقل مشروعها، فإن أقصى طموح لإدارة بايدن حاليا هو العودة لهذا الاتفاق في أسرع وقت وأيا كانت النتيجة التي ستفضي إليها التوترات الإقليمية التي قد تنجم عن إعادة العمل به، ومهما كانت التنازلات التي ستقدمها، وخلال ثماني جولات من المفاوضات في فيينا استغرقت ما يقرب من العام بدا أن إيران هي الطرف الأقوى في المفاوضات، وهي من يضع شروطه ويفرض كلمته ويرفع سقف مطالبه ويرفض تقديم أي تنازلات، وانصاعت واشنطن في النهاية لرغبة طهران وشروطها برفع العقوبات مسبقا قبل التوصل إلى إعادة العمل بالاتفاق بعد أن أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية، يوم الجمعة الماضي عن استئناف العمل بإعفاءات عن العقوبات المفروضة على برنامج إيران النووي، وهي إعفاءات كانت تحمي الدول والشركات الأجنبية المشاركة في مشاريع نووية غير عسكرية من التهديد بفرض عقوبات أمريكية وألغتها إدارة دونالد ترامب في عام 2020.
وبعيدا عن إيران وملفها، لكن قريبا جغرافيا منها، كان القرار الأغرب لبايدن هو الانسحاب الأمريكي العشوائي من أفغانستان بتداعياته الكارثية، ليس فقط على أفغانستان التي شهدت عودة حركة طالبان للحكم وعودة تنظيمي القاعدة وداعش إلى صدارة المشهد مرة أخرى، ولكن أيضا على كثير من حلفاء واشنطن وعلى أمن واستقرار منطقة بأسرها، وهو القرار الذي وصفه نائب الرئيس الأمريكي السابق، مايك بنس، بأنه "أكبر إذلال لواشنطن على الساحة الدولية منذ 40 عاما"، أما ترامب فقد وصف ما حدث في أفغانستان بـ"العار وأكبر الهزائم في التاريخ".
أما كوريا الشمالية، التي كان ترامب أول رئيس أمريكي يعبر حدودها ويلتقي زعيمها في يونيو 2019، فأجرت في عهد بايدن وتحديدا في يناير الماضي أكبر عملية إطلاق صواريخ منذ عام 2017، رغم المعاناة الكبيرة للاقتصاد الكوري الشمالي المتعثر.
وفي بقعة أخرى من العالم ضاعفت روسيا قواتها على حدود أوكرانيا، أحد حلفاء أمريكا، وتتأهب لدخولها في أي لحظة، ولا أعتقد أن واشنطن قادرة على أن تُثني موسكو عن تحقيق أهدافها في أوكرانيا كما فعلت من قبل في جورجيا وشبه جزيرة القرم وكازاخستان.
ومع الصين لم تفعل واشنطن شيئا إزاء محاولاتها تغيير الوضع الخاص لهونج كونج وتايوان أو مساعيها لفرض سيادتها على بحر الصين الجنوبي المتنازع عليه.
لم يقتصر فشل بايدن في إدارة سياسة بلاده الخارجية مع أعدائها ومنافسيها، كما هي الحال مع روسيا والصين وكوريا الشمالية، لكنه امتد أيضا إلى أهم وأبرز حلفائها الأطلسيين، كما حدث مع فرنسا التي تسبب بايدن في خلق أكبر أزمة دبلوماسية معها منذ عقود على خلفية اتفاق أوكوس، الذي خلّف جرحا غائرا وندبا واضحة في العلاقات بين البلدين، وربما في مجمل العلاقات الأمريكية الأوروبية، وصل إلى حد استدعاء فرنسا سفيرها في الولايات المتحدة، وهو ما اعترف به "بايدن" بنفسه لاحقا حين أقر في أكتوبر الماضي بأن إدارته كانت "خرقاء" وتصرفها "افتقر إلى اللباقة" في تعاملها مع الصفقة التي حرمت فرنسا من عقود دفاع بمليارات الدولارات.
هذه كانت مجرد أمثلة من حصيلة "القيادة العالمية" لأمريكا في ظل عام واحد فقط من حكم "بايدن"، وبالتأكيد ليس هذا ما يطمح إليه الناخب الأمريكي في الداخل ولا ما ينتظره حلفاء واشنطن في الخارج، فهل تحمل السنوات الثلاث المتبقية من حكم بايدن تغييرا يعالج كل هذه السقطات؟ أم أن التغيير سيأتي من خلال صندوق انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر المقبل، وصندوق الانتخابات الرئاسية في 2024؟
نقلا عن سكاي نيوز عربية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة