ما يبدو من أزمات في العراق، إنما تحمل معها مفاتيحها.
هناك واقع جديد، وهذا الواقع لا يفرض مراعاته على الجميع فحسب، ولكنه يفرض خطابه أيضا.
الكتلة الصدرية، التي تصدرت باقي الكتل السياسية الأخرى، إنما حققت ما حققته في انتخابات أكتوبر الماضي، انطلاقا من دعوات لمكافحة الفساد وحل المليشيات وسيادة القانون، والولاء للعراق ومصالحه وسيادته واستقلاله.
هذه الدعوات امتلكت قوة أن تكون "خطابا سياسيا" بديلا بفضل تناغمها مع تطلعات العراقيين، بل وتطلعات القوى الوطنية التي قاطعت الانتخابات أيضا.
ومثلما لم يعد من السهل إقامة حكومة تستبعد "الكتلة الصدرية"، فإنه لم يعد من السهل القفز من فوق هذا الخطاب.
الكثير من الكتل السياسية ما تزال تتصارع مع نفسها ومع غيرها، بالاستناد إلى ما أدمنت عليه، وهو تقاسم الحصص والامتيازات وفرص الفساد. ولكن الواقع بات يفرض عليها، وعلى "الكتلة الصدرية" نفسها، أن تنظر في متغيرَين كبيرين لا سبيل للقفز من فوقهما:
الأول، هو أن العراقيين الذين ظلوا يتظاهرون لأكثر من عام، ينددون بهيمنة إيران وأحزابها وفسادها، ما يزالون هم أنفسهم، ولم يتم نقلهم إلى كوكب آخر.
والثاني، هو أن الثمرة المُرّة التي تركتها هذه الأحزاب للعراق قدمت الدليل الكافي على أنها أحزاب غير وطنية، وتخدم أجندات لا تتوافق مع مصالح العراق، وأنها أفسدت حتى صرخ الفساد بها "كفى"! وأنها بددت أكثر من تريليون ونصف التريليون من عائدات البلاد النفطية، بينما ظل الفقر سائدا وظلت الخدمات الأساسية هزيلة.
السؤال البديهي هو: ما لم يمكن لهذا الفشل المدوي أن ينعكس في صناديق الاقتراع، فأين كان يجب أن ينعكس؟
ولكن هذا السؤال لم يعد هو نفسه بذات الأهمية أمام واقعٍ صار يلحُّ في طلب الإصلاح.
العودة إلى الوراء، حيث الهيمنة الإيرانية هي الحاكم الأول وهي المتصرف بموارد البلاد، لم تعد ممكنة، بحكم ذلك الفشل نفسه.
قد يمكن القفز من فوق "الكتلة الصدرية" كمنافس سياسي، ولكن لن يمكن القفز من فوق خطاب الحاجة إلى الإصلاح. وأي حكومة لا تنشأ على أساس هذا الخطاب سوف تنتهي إلى تكرار الفشل، فتنهار.
جماعات الولاء لإيران في أزمة، لأنها لا تستطيع أن تتخلى عن ولاءاتها، كما لا تستطيع أن تلائم بينها وبين حاجة العراق إلى إعادة إعمار حقيقية تضع مصالح العراق، ومصالح شعبه، فوق كل اعتبار.
الولاءات الوطنية هي نفسها لا تقبل القسمة على اثنين. فإما أن تكون مواليا لبلد خارجي، فتذهب إليه لتعيش فيه وتخدمه من هناك، وإما أن تكون مواليا لما قد تعتبره وطنك فتحافظ على مصالحه وتخدمها، وخاصة إذا تضاربت مع مصالح أي طرف خارجي.
الجمع بين ولاءين متضاربين ليس سوى خدعة لا يمكنها أن تنطلي على الفقراء والجياع والعاطلين عن العمل، ولا على اقتصادٍ تركه الولاءُ لإيران على شفا الإفلاس والانهيار.
العراق، بعد نحو 18 عاما من الفشل، يبدو بحاجة إلى كل شيء، وكأنه ما كان بلدا عامرا في أي وقت من الأوقات، أو يستطيع أن يوفر لمواطنيه الحد الأدنى من كفاية الخدمات.
يمكن للمناورات السياسية أن تتقلب على وجهٍ وآخر. ولكن لم يعد بوسع هذا الطرف ولا ذاك أن يتغافل عن الحقيقة الأهم والأكثر جدارة بالاعتبار، وهي أن العراق لم يعد يصلح ليكون تابعا لإيران، ولا شعبه يرضى بالبلاء الذي أحاط به منذ أن وجد نفسه ضحية لمليشيات جريمة وأعمال تخريب وفساد.
كما يمكن للمتنافسين على الحصص والامتيازات أن يطالبوا بوزارات ومركز نفوذ، ظنا منهم أن يكرروا ما فات، من دون أن يلاحظوا أن الذي فات مات، وأن ملفات الفضيحة يمكن أن تُفتح، وأن "مكافحة الفساد" صارت شرطا لازما لتولي المسؤوليات.
لقد حاولوا دفن العراق حيا. فحفروا له حفرة "المحاصصات الطائفية"، فوقعوا فيها، ووقعت معهم إيران.
ولقد أغرقوا العراق بالأزمات والويلات. ولكنهم، بما صنعوه من فشل، حملوا مفاتيحها أيضا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة