رغم أنّ التهديد الأمني هو العنوان الأبرز لتنظيم إرهابي كتنظيم "داعش"، الذي ما إنْ تخبو ناره حتى تنبعث بعملياتٍ مفاجئةٍ، فإن المعضلة أبعد من الأمن.
لا تزال الميادين الجغرافية الخصبة لهذا التنظيم هي هي بعد 9 سنوات، والتي تتراوحُ بين سوريا والعراق، ولعلّ أحداث سجن "غويران" في مدينة الحسكة السورية قبل أيّامٍ خير دليلٍ على إمكانية أنْ يعيدَ هذا التظيم ترتيب صفوفه، ليعيدَ نشاطه الإرهابي الذي تركَ مدناً كبرى في سوريا والعراق أثراً بعدَ عين.
وهذا يقودنا إلى ضرورة التنبُّهِ إلى أنّ التنظيم المتطرف ليسَ مسألةً أمنيّةً وعسكريّةً فقط, الأمر الذي يجعلنا أمام حقيقةٍ تفرضُ مسارات فكريّة واجتماعية توازي التعامل العسكري والأمني مع هذا التنظيم:
فأولاً على الصعيد الفكريّ: إنّ الركون إلى هزيمة التنظيم عسكرياً وتحويله إلى فلولٍ هاربةٍ في الصحراء والجحور ليس كافياً، فيجبُ أنْ نؤمنَ بأنّ هذا التنظيم إبّان سيطرته على مساحةٍ واسعةٍ من الجغرافية السورية والعراقية قد رزحَ تحتَ نير إرهابه ملايين المواطنين الذين كانوا مُجبَرين على تقمُّص فكره احتماءً من عنفه وإرهابه، الأمر الذي نتَجَ عنه تنشئة جيلٍ كاملٍ من الأطفال الذين تشرّبوا هذا الفكرَ عندما كان "داعش" ينهزم، كونه كان المورد الوحيد الذي نهلوا منه منذ نعومةِ أظفارهم، قبل أنْ يغادرهم التنظيم الإرهابي وهم مُراهقون، فأصبَحَ هذا الفكر مُحفزاً لتحوّل أعدادٍ هائلةٍ من هؤلاء إلى أداةٍ طيّعةٍ وبيئةٍ مناسبةٍ لانبثاق الخلايا النائمة في أي وقت، لا سيّما وأنّ القائمين على الحملات العسكرية التي دحرت "داعش" تركت هذه الفئة دون إعادةِ تأهيلٍ فكريٍّ، فصار لزاماً اليوم -وإنْ في خطوةٍ متأخرةٍ- أنْ نتنبّهَ لهذا الأمر وتُبذَل الجهود الجادّة من المجتمع الدولي عموماً لإعادة تأهيل أطفال وشباب المناطق التي تحررت من "داعش" بُغيَةَ هزيمة الفكر المتطرّف بالفكر السليم، ليتحولوا من بيئة للخلايا النائمةِ إلى بيئةٍ مُحصّنةٍ وسَدٍّ منيعٍ في وجه التطرّفِ والإرهاب.
ثانياً على الصعيد الاجتماعي: وهو الصعيد الذي يوازي الصعيد الفكريّ فيما يخصُّ ولادة التطرّف، وتكمن المعضلةُ به في تركِ المناطق التي تم تحريرها من تنظيم "داعش" الإرهابي في حالةِ دمارٍ شامل دون إعادة إعمارٍ، أو تهيئةٍ للبنى التحتيّةِ والتعليمية، بالإضافةِ إلى فقدان فُرَص العمل، وانتشار الفقر والجهلِ لغياب المؤسسات العلمية، الأمر الذي سهَّلَ على خلايا التنظيمِ إعادة هيكلة نفسها -وإنْ على المستوى الفرديِّ والمجموعات الصغيرة والاعترافات التي تبثها السلطات على الأرض، سواء في العراق أو في سوريا أكثر من أنْ تُحصى- والتي تفيدُ بأنّ الكثير ممن تمكنت السلطات من اعتقالهم إنما انضووا تحت مخططات التنظيم وقادته بدافع الحصول على المال والتخلُّص من الفقر الذي يعيشه معظم أفراد تلك المجتمعات، بالإضافةِ إلى تهميش تلك الشرائح المجتمعية من قبل السلطات على الأرض أو على الأقل تتعامل معها وكأنها لم تخرج من عصفٍ فكريٍّ إرهابيٍّ وسلوكيّاتٍ تَعمّق حضورها بذهنها لطول ما عايشته تحت حكم هذا التنظيم الإرهابي.
كل ذلكَ يجعلنا أمام واقعٍ لا مفرّ منه، ولا فكاكَ من شبح عودة الإرهاب، ما لم يضطلع الجميع بمسؤولياته تجاهه على المستويات الأمنية والفكريّةِ والاجتماعيّة، والمُطالَبُ الأوّل في هذا المقام بهذه المسؤوليات هي السلطات التي على الأرض، سواء في العراق أو في سوريا، والحلفاء المباشرون لتلك السلطا، ثم المجتمع الدولي برمته، بمنظماته ومؤسساته وهيئاته التعليمية والثقافية والإغاثية، فبذلك وحده يمكن الخلاص من هذا التنظيم أمنيّاً وفكريّاً واجتماعيّاً بلا رجعة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة