الحروب تتعلم من بعضها، تلك حقيقة لا يستطيع طرفا الصراع في فلسطين وإسرائيل أن يتجاهلا ما تعنيه.
وحيثما يسعى كل طرف إلى النصر وإملاء الهزيمة على الآخر، فإن فسحة العقل بين النصر والهزيمة، هي الشيء الذي يغيب كليا عن هذين الطرفين.
تلك الفسحة، علمت المنتصر في الماضي أن يمد يده للمهزوم، وأن يتنازل عن بعض نصره، ليُبقيه.
عندما لا يفعل ذلك، فإنه لا يستطيع أن ينتظر من المهزوم إلا أن يعود ليسحقه كما سُحق من قبل.
يوم كسب الحلفاء الحرب العالمية الأولى قرروا أن يسحقوا ألمانيا. قرروا إذلالها سياسيا واستعبادها بالديون أيضا. فعادت في الحرب العالمية الثانية لتسحقهم بوحشية أشد. ولو لم يخطئ هتلر في فتح جبهة جديدة للحرب على الاتحاد السوفياتي، فإن نصره، وانسحاق خصومه، في كل أرجاء أوروبا، كان سيدوم دهرا، ربما إلى اليوم.
درس المنتصرين الجديد بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية كان: إعادة بناء ألمانيا، وضمان نهضتها من ركام الحرب، ومساعدتها بدلا من قهرها.
التصاعد في مستوى الهجمات المتبادلة بين طرفي الصراع في فلسطين وإسرائيل كان هو الصفة التي جمعت بين مواجهات العامين 2008 و2009، ومن ثم عام 2014، وهذه الأخيرة.
المستوى غير المسبوق من الأعمال الوحشية بلغ حدا يتجاوز بأشواط كل ما كان يمكن تخيله، أنماط القتل والدمار والعقاب الجماعي صار من المستحيل أن يُقدم لها أي تفسير أو مبرر.
ظهرت لتقول، بوضوح، إن دافعها الوحيد هو الانتقام بأقصى صورة ممكنة للهمجية.
إذا كان ذلك هو الواقع اليوم فكيف ستكون الحرب المقبلة؟
لو كان المرء عاقلا وذا عائلة فإنه لا يملك في انتظار تلك الحرب إلا أحد خيارين: أن يقبل سلفا ما سوف تعني من أعمال ذبح، وأن يكون طرفا طوعيا فيها، أو أن يغادر إلى بيئة آمنة أينما كانت تكون.
مستويات الحقد والكراهية والتحريض على القتل والاستهتار بالحياة الإنسانية والتشفي بقتل الأطفال، والرقص على الجثث، والدمار الشامل، مما نراه الآن، سوف يبدو وكأنه مزحة أمام ما سوف يأتي، على الأقل لأن حرب اليوم جعلت حرب عام 2014 مزحة، وهذه جعلت ما قبلها مزحة أيضا.
طرفا الصراع سوف يحصدان الدروس ويتعلمان منها، كل ما تراه من قتل ودمار وقهر هو درس يتطلب الاستيعاب والاستعداد في كل شيء، من انقطاع الماء والكهرباء والدواء والغذاء والاتصالات وسقوط المباني، إلى فشل وسائل الرقابة وعجز المخابرات، ومن ثم إلى فشل المجتمع الدولي في التدخل، أو إنقاذ حياة أي أحد.
المستوى غير المسبوق من أعمال القتل والعقاب الجماعي بلغ حدا أفقد هذا المجتمع الدولي القدرة على استيعاب ما يحدث. هو في النهاية مجتمع تقديرات وتدخلات "عقلانية". ولا يبدو مستعدا للتعاطي مع مستوى الوحشية الراهن الذي فاق حد الجنون.
هذا الحد، لم يصل إلى مستوى هستيريا عمياء اليوم، إلا ليقول شيئا خارجا عن التصور بالنسبة للحرب المقبلة.
الذين يبدون اليوم وقد هزمهم القهر والإذلال الجماعي، سوف يتعلمون كيف يتحسبون وسائل عدوهم الهمجية، ويردوا له الصاع صاعين من حيث لم يحتسب، فقط اجلس وانتظر، لترى كيف ستأتي الجثث طافية على نهر مما صنعت!
انظر في السياق المنهجي للتصعيد، انظر في كيف تتعلم الحرب من الأخرى، ولسوف ترى بوضوح أن وحشية قنبلة نووية سوف تكون شيئا من بين أول الأدوات، والطرف الآخر سوف يكون مستعدا بدوره، لما تعنيه، لأنه لن يجلس لينتظر العاصفة.
الملايين، وليس الجيوش، هي التي سوف تخوض الالتحام الدموي، سوف تفعل ذلك بالأسنان والأظافر إذا عزت الأسلحة، لأنه لن يبقى لديها شيء تخسره. فعندما يصبح الموت هو المحصلة التي لا مفر منها، وعندما يكون الحقد والكراهية والانتقام، هو السلاح الأهم، فإن أنهار الدماء سوف تسيل كما يفترض أن تسيل.
شيء من هذا القبيل حصل في القدس، عندما غاصت الخيول حتى الركب بدماء القتلى، وهو ما سوف يأتي من جديد.
في 15 يوليو/تموز من عام 1099 اقتحمت جيوش الصليبيين القدس، في حملتها الأولى بقيادة جودفروا دي بويون، وأسرفت إسراف الوحوش في أعمال القتل لآلاف المسلمين من سكان المدينة.
شيء من هذا القبيل هو ما تفعله إسرائيل الآن، في غزة.
ليس من عادة التاريخ أن يترك فراغات في سجلاته للحوادث، ما حصل في الماضي، عادة ما يتكرر، بأي شكل ممكن.
عديم القدرة على التدبر هو من يبني تصوراته للواقع على غير هذه الصورة.
إنها صورة وحشية، نعم، ولكن انظر فيما يحصل الآن، وسترى بوضوح أن مسافة ما بعد الجنون، قد تخطت القدرة على استرداد العقل.
ثمة أمل في أن تؤدي المأساة الراهنة إلى منعطف سلام يداوي جراح الفاجعة. وهو أمل إنساني نبيل، لا يستطيع البشر العيش من دونه. إنه تعبير عن حاجتهم هم للأمن والسلام. وهو تعبير عن طبيعتهم، التي قررت أن تُبقي العقل حيا، وأن تخلع عن كاهلها علاقات الحقد والكراهية، وأن تتوسط النزاعات فيما بينها على شيءٍ من تقاسم النصر والهزيمة.
ولكن انظر في الثقافة السائدة في ساحة الصراع، هل تجد أي مساحة للتنازلات أو التسويات العاقلة؟ والمشروع، الظاهر منه والباطن، هل يعد بشيء آخر إلا تعاقب المجزرة بعد المجزرة؟
كل ما حصل حتى الآن من أعمال قتل جماعية لن يقضي على الطرف الآخر، لن يزيله من الوجود، قد يسحقه بالقهر، إلا أنه لا يملك الوسائل لشطبه من سجل البقاء، وهو لن يغذي، بالتالي، إلا دوافع الاستعداد للمزيد.
أعمال الإبادة اليوم سوف تُعلّم الأطفال كيف يُتقنون أعمال الإبادة غدا، لأن فسحة العقل بين النصر والهزيمة تم قتلها من قبل أن تبدأ المعركة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة