عصر جديد قد بدأ في الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية على مختلف تخصصاتها، والإعلان الإسرائيلي عن سقوط وزير بداية مرحلة جديدة.
تأتي مبادرة جهاز الشاباك (جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي) بالكشف عن اعتقال وزير الطاقة الإسرائيلي الأسبق جونين سيجيف، المتهم بشبهات، حتى الآن، بمساعدة إيران، لتشير إلى مرحلة جديدة في تاريخ الاستخبارات الإسرائيلية على جميع المستويات، ولتكشف عن تغيير دراماتيكي حقيقي داخل مجمع الاستخبارات المعروف باسم (موساد لي)، الذي يضم خمسة أجهزة استخبارات عامة تعمل على جميع القطاعات الداخلية والإقليمية، وعلى المستوى الدولي.
وبصرف النظر عن اتهام الوزير الإسرائيلي السابق بأنه أجرى اتصالات مع السفارة الإيرانية في نيجيريا عام 2012، وأنه سبق وأن زار إيران، وأنه أمد الجانب الإيراني بمعلومات عن أجهزة ومؤسسات سياسية وأمنية وغيرها من الاتهامات المعلنة إلا أنه في دوائر الاستخبارات الإسرائيلية تفاصيل أخرى.
إعلان اعتقال وزير سابق في إسرائيل ليس حدثا في ظل القبض على كبار المسؤولين السابقين من رؤساء لإسرائيل إلى رؤساء وزراء سابقين، ولكن الحدث الأكبر هو اتهام المسؤول السابق بالتجسس لصالح إيران، وهو ما قد يكون مربط الفرس.
أولا: لأول مرة في تاريخ الأجهزة الاستخباراتية تعلن إسرائيل من جانب واحد أن عميلا –بصرف النظر عن كونه وزيرا أو مسؤولا سابقا– قد سقط وهي سابقة لم تحدث من قبل طوال 70 عاما من عمر الدولة العبرية، وهو ما يشير إلى تغيير الفلسفة العامة التي حكمت الأجهزة الاستخباراتية على مختلف درجاتها، حيث لم تعترف إسرائيل أبدا بسقوط عملاء لها حتى مع إلقاء القبض عليه كعمل استباقي، وهو نقيض ما جرى في الكشف عن عشرات الحالات التي نجحت دول عربية في إسقاط عدة شبكات لإسرائيل، حيث نجحت مصر والعراق والجانب الفلسطيني في الإعلان عن سقوط عملاء لإسرائيل رسميا، وتم الإفصاح عن التفاصيل، ولم تعترف إسرائيل رسميا بذلك وإن تم في سياق استخباراتي، وهو ما انطبق على الجاسوس عزام عزام الذي قُبض عليه في مصر، وكذلك العميل عماد إسماعيل والعميلة زهرة جريس في العملية الشهيرة التي جرت وقائعها في مصر، ومن قبل في واقعة اتهام أشرف مروان بأنه كان عميلا مزدوجا، ولم تعترف إسرائيل بملف مروان أبدا رغم أن إسحق حوفي، رئيس الموساد، اعترف في مذكراته بأنه التقى مروان قبل قيام حرب أكتوبر بعدة ساعات في محطة حية قرب إسرائيل (يرجح أنها قبرص)، وأبلغه بموعد الحرب.
والرسالة أن إسرائيل باعترافها باعتقال وزير سابق ما زال متهما، تسن قاعدة جديدة في إطار الاعتراف بسقوط عملاء لها على الجانب الآخر، وهو الأمر الذي لم يكن مسموحا به أبدا داخل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية للحفاظ على الروح المعنوية لشبكة العملاء في أنحاء العالم، وفي ذاكرتي استمرار المطلب الإسرائيلي للولايات المتحدة بالإفراج عن الجاسوس جوثان بولاردو، والمعتقل في الولايات المتحدة وعرضت ملايين الدولارات للإفراج عنه .
ثانيا: سيفتح الإعلان عن سقوط الوزير الإسرائيلي الباب أمام تساؤلات مهمة عما يجري في الموساد تحديدا، وهل جرى بالفعل حركة تطهير في السنوات الأخيرة نتيجة لحالات التذمر التي جرت في الجهاز الشهير بسبب تصعيد بعض القيادات غير المتميزة، وهو الجهاز الذي ما زالت تحكمه معايير وضوابط خاصة تميزه عن سائر الأجهزة الأمنية؟، وماذا عن المهام الجديدة المكلف بها في الوقت الراهن؟، وهل تحوّل دوره إلى دور سياسي واستخباراتي معا، خاصة مع التقليص الذي جرى في عدد من المحطات الحية والميتة للجهاز الشهير في عدد من عواصم العالم، ما أدى إلى تهميش بعض أدواره على حساب جهاز الأمن العام، وهو الشاباك الذي كشف القضية الخاصة بالجاسوس الإسرائيلي، وتعجل بنشرها بناء على تصديق من رئيس الوزراء نتنياهو، وبموافقة جهاز الرقابة العسكرية، خاصة أن الوزير المتهم كان عضوا في الكنيست، ودخل الائتلاف الحاكم الذي ترأسه رئيس الوزراء الأسبق إسحق رابين عام 1995، كما عمل في وزارة شيمون بيريز، وسبق وأن أدين واتُهم في قضايا وسجن لمدة عامين من قبل.
والمعنى أن الوزير المتهم لم يكن فوق مستوى الشبهات أصلا، ثم أن عمر القضية وإطارها الزمني كان منذ عام 2012، والكشف عنها في الوقت الراهن يشير إلى وجود صراع حقيقي بين الأجهزة الاستخباراتية على نقل رسالة ستخدم نتنياهو شخصيا بأنه لا يتستر على أي مسؤول برغم أنه شخصيا ما زال ملاحقا ومتهما بالفساد، والهدف بالأساس حزبي، وقبل إجراء الانتخابات المبكرة التي تسعى إليها بعض أحزاب الائتلاف، وليس الليكود وحده.
ثالثا: سألت وزير الدفاع المصري (شغل أيضا موقع رئيس الوزراء في مصر) الراحل كمال حسن علي، والذي شغل موقع رئيس المخابرات العامة في مصر ، حين كنت أعد أطروحتي للدكتوراه عن دور أجهزة المعلومات الإسرائيلية في صنع قرار التسوية العربية الإسرائيلية، لماذا بدأت إسرائيل الكشف عن أسماء رؤساء أجهزة المخابرات على مختلف درجاتها في الإعلام؟، ووقتها لم يكن يسمع المصريون عن اسم رئيس المخابرات العامة الأسبق عمر سليمان شيئا، وكان قد سبقه الوزير أمين النمر.
أجابني الراحل العظيم أن عصرا جديدا من تاريخ المخابرات العالمية والإقليمية يُكتب، وأن العرب وإسرائيل سيجلسون على مائدة واحدة، ومن الطبيعي أن تحدث مثل هذه الأمور، وبالفعل جلس العرب وإسرائيل وجها لوجه في مؤتمر مدريد، ثم في مفاوضات متعددة الأطراف في موضوعات الأمن الإقليمي والمياه والمستوطنات والقدس والحدود.
والمعنى أن إسرائيل سبق وأن غيّرت فلسفة تعاملاتها الأمنية والاستخباراتية خاصة في إنشاء وتنمية شبكاتها الاستخباراتية في الدول العربية، ووفقا لفلسفة حكمت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية لسنوات طويلة، وهو ما انطبق على الجميع حتى مع الدول العربية التي أبرمت معها اتفاقيات سلام مثل مصر والأردن، بدليل كشف البلدين عن العديد من الشبكات الإسرائيلية دون أن تعترف إسرائيل بذلك رسميا إلا في الحالة الأخيرة .
رابعا: يجري في الوقت الراهن في الاستخبارات العسكرية (أمان) تعديلات حقيقية وتغييرات في المهام، وهو الأمر الذي لم يعد مقصورا على الموساد والشاباك فقط، خاصة أن خطط تطوير المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تُجرى على قدم وساق.
ومن هذه الخطط خطة عوز وخطة تيفن، التي استهدفت إسرائيل من الإعلان المختصر عن أهداف هذه الخطط القومية التأكيد على أن المهام التقليدية لهذه الأجهزة يجري تعديلها، وتحديد مهام جديدة تلائم المتطلبات الأمنية الجديدة في الإقليم، والتي تحاول إسرائيل استشرافها، والتعامل معها. وفي إطار ما تواجهه إسرائيل من مخاطر لم تعد مقصورة على دول الجوار، بل أدخلت إسرائيل مخاطر الهجوم الإلكتروني، وحروب السيايبر، وجيوش القطاع الخاص، والاختراقات في الجبهة الداخلية، وغيرها من الأنماط الجديدة التي انتبهت لها إسرائيل، وبدأت الاستعداد لها جيدا إلا أن هذا الأمر لا يعني أن إسرائيل وادي سيليكون وقلعة محصنة، ولا تشهد إخفاقات أمنية أو استخباراتية، بل بالعكس شهدت إسرائيل سقوط عملاء لها خلف الحدود ومع دول متعددة، وإن كانت الساحة الكبرى لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية باتت في آسيا أولا مع تمدد استراتيجي واستخباراتي في أفريقيا، وبعض بلدان أمريكا اللاتينية، خاصة أن الاختراق الاستخباراتي الإسرائيلي يعمل في جنوب سوريا، وفي شمال إسرائيل، حيث حزب الله ومن داخل الضفة الغربية، وعلى طول مناطق التماس الاستراتيجي، وعلى طول الحدود، بل ووصل إلى حدود المغرب العربي، وفي جنوب الساحل.
خامسا: سيكون على أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، ومجمعها العام إعادة صياغة المهام الملحة والعاجلة في مواقع مختلفة، خاصة أن حفاظ إسرائيل على سرية عمل ومهام شبكات التجسس سيحتاج إلى معايير جديدة، وضوابط مختلفة تطلبت في مراحل معينة داخل الاستخبارات العسكرية المطالبة بزيادة النفقات وتحويل بعض مخصصات التعليم والصحة للمؤسسات الاستخباراتية، وهو ما أثار إشكاليات حقيقية في الساحة السياسية والمجتمعية من منظور أولويات الأمن على أية أولويات أخرى، ومع التغيير المستمر داخل أجهزة الاستخبارات، وإعادة تحديد مهامها سيكون ذلك مثار نقاش سياسي واستراتيجي غير مسبوق، وفي إطار ما بات يعرف في إسرائيل بتحديد طبيعة العلاقات المدنية العسكرية، وهو ما سيكون إحدى القنابل الموقوتة التي ستحتاج إلى معالجة مختلفة قد لا يستطيع رئيس الوزراء نتنياهو في وضعه الراهن، وشعبيته الآخذة في التدهور (بعيدا عن استطلاعات الرأي العام المضللة) حسمها بالفعل، وإن كانت مراكز القوى في المجتمع الإسرائيلي قادرة على التعامل مع مثل هذه الأمور، وإن كان بتسويف البحث عن حل، وإنما تأجيل الأمر مثلما جرى في موضوعات متعلقة بكتابة دستور جديد لإسرائيل، أو حسم بعض القوانين المثيرة للجدل، ومنها تحديد ما هو اليهودي تحديدا.
سادسا: إن إعلان اعتقال وزير سابق في إسرائيل ليس حدثا في ظل القبض على كبار المسؤولين السابقين من رؤساء لإسرائيل إلى رؤساء وزراء سابقين، ولكن الحدث الأكبر هو اتهام المسؤول السابق بالتجسس لصالح إيران، وهو ما قد يكون مربط الفرس، في توجيه رسالة إلى إيران بانتقال ساحة المواجهة، وهو أمر طبيعي في عالم الاستخبارات إلى بناء شبكات وتفعيل عمليات الاختراق في الداخل للحصول على معلومات متعددة، وإن كان من المثير أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو قد أعلن منذ عدة أشهر، وقبل الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي أن الموساد قد قام بالحصول على تفاصيل ما يجري في البرنامج النووي الإيراني، وأذاع الأمر أمام العالم في إطار ما امتلكته إسرائيل من وقائع، ربما لم تقنع بعض الأجهزة الاستخباراتية العالمية، بما فيها الاستخبارات المركزية الأمريكية ذاتها .
عصر جديد قد بدأ في الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية على مختلف تخصصاتها، والإعلان الإسرائيلي عن سقوط وزير بداية مرحلة جديدة في عمر مجمع الاستخبارات الإسرائيلية الذي ظل لسنوات طويلة صندوقا أسود حقيقيا، والإعلان عن الإخفاق الإسرائيلي الراهن بصورة مستترة لا يعني بالضرورة أن طرفا على الجانب الآخر قد نجح بل ربما ستكون التكلفة أكبر مما يتصور البعض.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة