لأننا في هذه الحالة المركبة من التعامل مع أردوغان في عصر ما بعد الحقيقة، وصل العرب إلى وضعية شلل عن التفكير، وتجاهل حقائق الأمور.
لأننا نعيش في عالم "ما بعد الحقيقة" post-truth age، وهو عالم تكون فيه الحقائق الموضوعية قليلة الأهمية، وأضعف تأثيراً في تشكيل الرأي العام؛ وتكون الغلبة للآراء الفردية والعواطف، والمعتقدات الشخصية، والشعارات والشائعات والدعاية، ففي عالم ما بعد الحقيقة؛ من السهل انتقاء بعض المعلومات، وإطلاقها بصورة مخططة منظمة، هادفة للوصول إلى النتيجة التي تريدها.
ولأن تركيا في عهد أردوغان هي مزيج غريب بين الدولة والخلافة والإمبراطورية المتخيلة، وما بين الحزب والزعيم المتجلي في صورة واحد من آلهة الإغريق، وما بين الأتباع والأنطاع، والبلهاء والمسحورين، لأن تركيا في هذه الحالة؛ فمن المستحيل أن يتم إخضاع تصرفات قيادتها للتحليل السياسي الرصين، لأن الرئيس التركي يتصرف كناشط سياسي منفلت لا تضبطه قواعد ولا قوانين دولية، وأحياناً كزعيم ديني، وثالثة كداعية حقوق إنسان انتهازي.. أردوغان رئيس دولة وزعيم حزب، وقائد جماعة، وسلطان المسلمين كما يحلم، أو يحلم له القرضاوي، ومقامر في عواصم العالم الغربي.
يجب أن تتم إعادة جريمة قتل الأستاذ جمال خاشقجي رحمه الله إلى وضعها الطبيعي وهو القانون، وتخرج من المجال السياسي، ويجب أن يتم تقديم الدولة التركية للمحاكم الدولية لارتكابها جريمة: التجسس على البعثات الدبلوماسية، وجناية مساعدة المجرمين على القتل، والتواطؤ معهم
لأننا في هذه الحالة المركبة من التعامل مع أردوغان في عصر ما بعد الحقيقة، وصل العرب إلى وضعية شلل عن التفكير، وتجاهل حقائق الأمور، ووضعوا في موضع الدفاع أمام الهجوم المنظم من قبل تركيا أردوغان مدعومة بكل أدوات إمارة قطر.. ولكن الحقيقة غير ذلك تماماً، فمن كان في موقع الهجوم يجب أن يوضع في قفص الاتهام، فقد وقعت في إسطنبول جنايتان، وجريمتان هما:
أولا: الجريمة الأولى: جريمة دولية بامتياز، يجب أن تخضع الدولة التي ارتكبتها للعقاب من قبل المجتمع الدولي، وهي جريمة التجسس على السفارات والقنصليات، ووضع أجهزة للتسجيل بالصوت والصورة داخلها، وهذه الجريمة الدولية تستوجب أن يتم رفعها لمحكمة العدل الدولية وللأمم المتحدة، فقد نصت كل من: اتفاقية فيينا للحصانات الدبلوماسية عام 1961 في المادة 22، واتفاقية فيينا عام 1963 للحصانات القنصلية في المادة 31 على حرمة مقر القنصلية وسكن القنصل، واعتبارهما تابعيْن لسيادة الدولة المبتعثة، ومن ثم فإن التجسس عليهما أو انتهاك خصوصية كل من مقر القنصلية وسكن القنصل هو جريمة دولية.
وقد اعترف الرئيس التركي، ووزير خارجيته المسؤول عن إدارة العلاقات الخارجية، بأن الأتراك كانوا يضعون وسائل تجسس داخل القنصلية السعودية، وحصلا على تفاصيل وحوار من كان بداخل القنصلية، وقت قتل الصحفي السعودي الأستاذ جمال خاشقجي رحمة الله عليه، وأن الدولة التركية سلمت التسجيلات لدول عديدة، وهذا اعتراف رسمي بالحصول على هذه التسجيلات بطريق غير قانوني، يخالف الاتفاقيات الدولية.. وقد استقر القانون الدولي والداخلي وسبقته الشريعة الإسلامية على أن وسائل إثبات الجريمة لا بد أن تكون مشروعة وقانونية، فلا يمكن القبول بإثبات جريمة من خلال ارتكاب جريمة أخرى، وهذا ما قامت به حكومة تركيا.
ثانيا: الجريمة الثانية: وهي ثانية من حيث ترتيب الوقوع وليس الأهمية، وهي جريمة مقتل إنسان في داخل مقر بعثة قنصلية، ولو كان هذا الإنسان مواطناً لدولة أخرى لكان ذلك سبباً لأزمة دولية، ولكنه في حالة الأستاذ جمال خاشقجي رحمة الله عليه فهو مواطن لنفس دولة قاتليه، وهنا تكون المخالفة القانونية في انتهاك حرمة البعثة الدبلوماسية في حق نفس الدولة، ولكن يظل لها الانعكاس السلبي على مدى احترام البعثة القنصلية السعودية في إسطنبول للقانون الدبلوماسي والقنصلي الدولي، وحيث إن مقر البعثة والقاتل والمقتول من نفس الجنسية وتابعان لنفس الدولة، وليس بينهما من يحمل جنسية دولة ثانية، فلا يحق لدولة أخرى أن ترفع شكوى ضد السعودية أمام المحاكم الدولية، أو أمام الأمم المتحدة، وكل ما حدث بعد جريمة قتل الأستاذ جمال خاشقجي هو من قبيل التوظيف السياسي لتحقيق مصالح دول معينة، ولا علاقة له بالقانون الدولي على الإطلاق.
ثالثا: الجناية الأولى؛ وهي جناية قيام مجموعة من المواطنين السعوديين العاملين في جهاز الدولة بارتكاب جريمة قتل سواء بالخطأ أو بالعمد؛ كما ستبين التحقيقات التي لم تنته حتى الآن، وهذه في حد ذاتها جناية منكرة، لا بد أن يعاقب مرتكبها طبقا للقانون السعودي؛ لأن القاتل والمقتول ومكان الجريمة تابعون جميعا للسيادة السعودية، ولا يحق لتركيا أن تطلب غير ذلك، خصوصاً أنه لا توجد اتفاقية تسليم مجرمين بين الدولتين، وكل ما يقوله الرئيس التركي ووزير خارجيته في هذا الخصوص هو من قبيل الدعاية والاتجار بدم الأستاذ خاشقجي رحمه الله؛ لتحقيق مكاسب مع الدول الأوروبية وأمريكا، ولخدمة مصالح الحلفاء في قطر.
رابعا: الجناية الثانية، وهي جناية أجهزة الأمن والمخابرات والقضاء التركي الذي عرف بجناية قتل الأستاذ خاشقجي قبل وقوعها؛ كما أعلن الرئيس التركي، وأثناء ارتكابها، كما يردد دائما الرئيس التركي، حيث كان كل شيء أمامه بالصوت والصورة، ورغم ذلك لم يتدخل لإيقاف الجناية، واتفاقيات جنيف الأولى والثانية تعطيه الحق في التواصل مع القنصل والتدخل لمنع وقوع الحريق، أو منع وقوع الجناية، ورغم ذلك لم تتدخل أجهزة ومؤسسات إنفاذ القانون في تركيا، وتركت من ارتكب الجناية ليكمل جنايته، وتركته يترك مسرح الجريمة، وذلك لأن القيادة التركية اختارت الصمت والمساعدة على إتمام الجناية لتحقق من ورائها مكاسب سياسية واقتصادية، وهذه في حد ذاتها جناية قانونية، وجريمة أخلاقية كبرى، تعبر عن حالة من الانتهازية، وفقدان الإنسانية؛ أن تترك إنسانا يموت لأن في موته مصلحة لك أو لدولتك!!
ما وقع في إسطنبول يستوجب أن يحاسب عليه الأفراد السعوديون الذين ارتكبوه، أمام محاكم السعودية، وأن تحاسب عليه الدولة التركية أمام المحاكم الدولية، وفي الأمم المتحدة.
لقد حاول أردوغان أن يحول جناية هو شريك فيها، وجريمة هو من فاعليها إلى سلعة سياسية واقتصادية، ويقوم دون حياء أو خجل بتسويقها للعالم الغربي، ويعيد إصلاح علاقاته مع أمريكا وأوروبا بدماء المرحوم خاشقجي، وإمعاناً في ذلك يقوم بتوزيع الأدلة الجنائية التي يجب أن تقدم للقضاء فقط على الدول الغربية حسب تصريحه: أمريكا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وكندا.. ولا يوجد في أي قانون دولي، أو محلي، أن تستخدم أدلة جنائية كوسيلة لتحقيق المكاسب السياسية من خلال الابتزاز والمقامرة.
يجب أن تتم إعادة جريمة قتل الأستاذ جمال خاشقجي رحمه الله إلى وضعها الطبيعي وهو القانون، وتخرج من المجال السياسي، ويجب أن يتم تقديم الدولة التركية للمحاكم الدولية لارتكابها جريمة: التجسس على البعثات الدبلوماسية، وجناية مساعدة المجرمين على القتل، والتواطؤ معهم؛ لابتزاز دولتهم، وتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة