انضمام إيطاليا لـ"حزام واحد.. طريق واحد".. هل تستمر المخاوف الأوروبية إزاء المبادرة الصينية؟
تستهدف إيطاليا من انضمامها لمبادرة: حزام واحد.. طريق واحد" تحريك المياه الراكدة وإنعاش اقتصادها بتوطيد علاقاتها التجارية مع الصين.
في الثالث والعشرين من مارس/ آذار الماضي، وقَّع الجانبان الإيطالي والصيني مذكرة تفاهم بشأن مبادرة "حزام واحد.. طريق واحد" إبَّان الزيارة الرسمية التي اضطلع بها الرئيس الصيني شي جين بينغ لإيطاليا في مستهل جولته الأوروبية التي شملت كلًا من إيطاليا وموناكو وفرنسا. ويُعَد هذا الحدث أبرز المكاسب التي أسفرت عنها الجولة الأوروبية لـ"بينغ" لكون إيطاليا أولى دول مجموعة السبع الصناعية G7 التي أعلنت انضمامها للمبادرة. الأمر الذي يضيف رونقًا وثقلًا اقتصاديًا وجيوسياسيًا لذلك المشروع الصيني العملاق. وقد شهدت الزيارة أيضًا توقيع حزمة من الاتفاقيات الرامية إلى دفع التعاون الاقتصادي بين الجانبيْن للمُضي قدمًا. ورغم أنَّ إجمالي تلك الاتفاقيات وتفاصيل العقود المبرمة لم يتم الإفصاح عنها على المستوى الرسمي، إلا أنَّه ثمة مصادر حكومية قدَّرتها بنحو 20 مليار يورو في حين ذكرت مصادر إعلامية إيطالية أن القيمة الإجمالية لتلك الاتفاقيات لم تتجاوز الـ 5 مليارات يورو.
وقد أفضى قرار الحكومة الإيطالية المتعلق بالانضمام إلى مبادرة "حزام واحد.. طريق واحد" إلى ردود أفعال انطلقت قاطبةً من أرضية واحدة ألا وهي عدم الرضا عن ذلك القرار باعتباره يكلِّف كثيرًا على المستوى السياسي وإنْ كانت له مآلات اقتصادية لها مردود إيجابي على الجانب الإيطالي. وقد تباينت الشاكلة التي أتت عليها تلك الردود؛ فبعضها اعترت نبرته الغضب والتحذير بشكل جلي كتصريح وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو الذي ورد خلال جلسة استماع في لجنة الشئون الخارجية بالكونجرس. فقد عبَّر التصريح عن خيبة أمل الولايات المتحدة إثر اضطلاع أي دولة بالانخراط في علاقات وتبادلات تجارية غير واضحة المعالم والتداعيات مع دولة الصين، محذِّرًا الجانب الإيطالي من الخسارة في نهاية المطاف، فحين تنخرط الدول في صفقات أو شركات عامة تسيطر عليها الصين، فإنَّ هذا الأمر لا يبشِّر بالخير على الإطلاق معتبرًا أنَّ الصين تنتهج "دبلوماسية فخ الديون" على حد تعبير بومبيو.
أما ردود الأفعال الأوروبية، وإنْ عكست أيضًا التخوفات ذاتها من عواقب ذلك القرار الإيطالي، إلا أنها اتسمت بالدبلوماسية وكانت على قدر ذي بال من الحذر. وقد تجلَّت تلك الردود في القمة المصغرة التي عُقِدت بالإليزيه في السادس والعشرين من مارس/آذار خلال زيارة بينغ لفرنسا، آخر محطات جولته الأوروبية، والتي حضرها كلٌ من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر، حيث طُرِحت ملفات عدة للنقاش، وهي السلام والأمن الدولييْن والثقة الاستراتيجية المتبادلة والبيئة، بغية التوافق حول نقاط رئيسة تستهدف تأسيس شراكة قوية بين دول الاتحاد الأوروبي والصين. إذ أكَّد ماكرون ضرورة احترام الوحدة الأوروبية في إشارة إلى الاتفاقية الثنائية بين الصين وإيطاليا بخصوص مبادرة الحزام والطريق، ولكنه أضاف في الوقت ذاته إلى أن التعاون والانفتاح أفضل من الانغلاق؛ فالحوار بين الصين وأوروبا أضحى على قدر كبير من الأهمية لحماية تعددية النظام العالمي.
وأشارت ميركل في هذا السياق إلى أنَّ المنافسة الاستراتيجية هي أمر إيجابي، ولكن في إطار الوحدة الأوروبية، وهو المضمون ذاته الذي أكَّد عليه يونكر؛ إذ أيَّد انفتاح الشركات الصينية على نظيرتها الأوروبية، ولكنه عبَّر بشكل صريح عن تخوفاته المتعلقة بالطاقة الإنتاجية المفرطة للصين في قطاع الحديد والصلب، والتي تمثِّل ضعف إنتاج الاتحاد الأوروبي في القطاع ذاته. وقد أكَّد يونكر على أنَّه ليس من بين أولئك الذين يوجهون الانتقادات لانضمام إيطاليا إلى مبادرة الحزام والطريق؛ ذلك لأنَّ رئيس الوزراء جوزيبي كونتي حرص دائمًا، على حد تعبيره، في كل بند من الاتفاقية على مرجعية سياسات الاتحاد الأوروبي ومبادئه، مضيفًا أنَّ مخاوفه تتجلى بوضوح في أنْ تكون الصين هي الطرف الوحيد الذي سيعظِّم مكاسبه من المبادرة.
- محفِّزات انضمام إيطاليا لمبادرة الحزام والطريق الصينية
ثمة عوامل عدة دفعت بالاتجاه نحو انضمام إيطاليا إلى مبادرة حزام واحد.. طريق واحد، وبالإمكان تقسيمها إلى مجموعتيْن من المحفزات. إذ ترتبط المجموعة الأولى بالمبادرة ذاتها التي أماط بينغ اللثام عنها إبان زيارته لكازخستان في عام 2013 بعنوان "البناء المشترك للحزام الاقتصادي لطريق الحرير وطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين" التي عُرِفت اختصارًا باسم "حزام واحد.. طريق واحد"، وقد باتت منذ ذلك الحين هي المحفز الأساسي لجهود الدبلوماسية الصينية. الأمر الذي تُوِّجَ بانضمام إيطاليا للمبادرة الشهر الفائت، ليصبح عدد أعضائها حوالي 134 عضوا من مختلف أقاليم العالم.
ويجري الترويج لذلك المشروع العملاق باعتباره أعظم مشروعات القرن الحادي والعشرين في مجال البنية الأساسية، حتى إنَّ البعض قد أطلق عليه مشروع مارشال الصيني، ويستهدف تأسيس أكبر شبكة من الخطوط البرية والبحرية وخطوط الطاقة عبر العالم. ودائمًا ما يُرَوَّج أنَّ هذا المشروع العملاق الذي يجري تأسيسه على قدم وساق باستثمارات صينية قُدِّرت بنحو 900 مليار دولار، يرتكن إلى العولمة التنموية بمعنى المسئولية المشتركة لتحقيق التنمية في جُلّ دول العالم، وفي القلب منها دول العالم الثالث، واقتراب الربح للجميع win-win approach أي أنَّ كافة الدول المشاركة بالمبادرة ستجني ثمارها الاقتصادية، فانخفاض التعريفة الجمركية والرسوم المفروضة على السلع المستوردة، على سبيل المثال لا الحصر، بنسبة 30% يمكن أن يعود بالنفع على كافة الأطراف؛ إذ إنَّ ذلك من شأنه توليد مكاسب اقتصادية بنسبة 1.8% في الناتج المحلي الإجمالي للصين، ومن 5.3% إلى 16.9% في الناتج المحلي الإجمالي للدول الأخرى الأعضاء في المبادرة حسبما أورد موقع الصين اليوم في تقريره الذي جاء تحت عنوان "سيمفونية الحزام والطريق". هذا إلى جانب الاستثمارات الصينية بنحو 10.5 مليار يورو في 55 دولة مشاركة في المبادرة خلال الأشهر العشرة الأولى فقط من عام 2018، كما وُقِّعت عقود لمشروعات تابعة للمبادرة بقيمة تزيد على 80 مليار دولار. ويكفي القول إنَّ عدد الدول المنضمة للمبادرة قد شهد قفزة حقيقية خلال العام المنقضي؛ ففي يناير/كانون الثاني 2018، كان العدد قد وصل إلى 71 دولة، تمثِّل ثلث الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ليصبح الحديث الآن عن 134 دولة.
أما المجموعة الثانية من المحفِّزات، فهي ترتبط بالداخل الإيطالي بشكل وثيق؛ إذ دخلت البلاد في ركود اقتصادي منذ أواخر عام 2018، ويُعَد الدين الإيطالي ضمن أعلى الديون في منطقة اليويو، ووصل إلى أعلى معدلاته في عام 2018 كما يوضح الشكل التالي:
ومن ثم تستهدف إيطاليا من انضمامها لتلك المبادرة تحريك المياه الراكدة وإنعاش اقتصادها بتوطئة علاقاتها التجارية مع الصين، والحصول على دفعة قوية من الاستثمارات الصينية المباشرة لاسيما في مجال البنية التحتية، خصوصًا إذا كانت إيطاليا إحدى أهم وجهات تلك الاستثمارات قبيل الانضمام إلى المبادرة الصينية، ولا شك أنَّ انضمامها للمبادرة سيقود إلى توطيد مركزها كثيرًا وربما قبعت في صدارة المشهد. وفي هذا الصدد، أشار رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي إلى استفادة مينائي جنوة وتريستا، على وجه الخصوص، بالتمويل الصيني بغية إحياء الموانئ الإيطالية التاريخية الواقعة على طريق الحرير البحري، وفي حين يرى بعض المحللين الإيطاليين أنَّ إيطاليا تستهدف فقط تعزيز روابطها الاقتصادية مع الصين، يرى آخرون أنَّ إيطاليا تبعث برسالة قوية، مفادها أنها تستشعر عدم اكتراث الشركاء الأوروبيين لأزماتها الاقتصادية، ومن ثم لجأت لتعزيز شركاتها الاقتصادية مع الصين.
- مخاوف أوروبية إزاء مبادرة حزام واحد.. طريق واحد
هناك جملة من المخاوف الأوروبية إزاء الدور الصيني على الساحة الدولية بشكل عام، وهي ليست مخاوف أوروبية فحسب، بل إنها تحفظات يمكن إبداؤها من خلال تأمُّل التحركات الصينية، وفي القلب منها، مبادرة الحزام والطريق. فهذه المبادرة ليست فقط مجرد استثمارات بمليارات الدولارات على إنشاء شبكات من الطرق البرية وسكك حديدية وتطوير موانئ فحسب، بل إنها تستهدف إحكام القبضة الصينية على أكثر المواقع الحيوية أهميةً في العالم من طرق برية وممرات بحرية. هذا أخذًا في الاعتبار أنَّ الاستثمارات الصينية الضخمة لن تُتْرك بلا تأمين عسكرية؛ ولذا تشير التحركات الصينية في السنوات القليلة الماضية إلى تأسيس قواعد عسكرية على المواقع الواقعة على طرق الحرير البرية والبحرية بغية توفير الحماية اللازمة.
ولعل افتتاح الصين لقاعدتها العسكرية في جيبوتي في عام 2016 هي أولى الخطوات في هذا الاتجاه فضلًا عن تعزيز المساهمة العسكرية الصينية في قوات حفظ الأمن والسلم الدولييْن في بؤر الصراعات المعقدة في أفريقيا وغيرها، بما يتيح لها الاحتكاك بهذه الصراعات عن قرب، والتي تدلِّل بما لا يدع للشك مجالًا أنَّ الصعود الصيني لم يعُد صعودًا ذا بعد اقتصادي فحسب، بل أضحت تتشابك معه أبعاد أخرى سياسية وعسكرية. ناهيك عن المؤسسات التي أنشأتها الصين عقب إطلاق مبادرة الحزام والطريق، وكان في طليعتها البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية لمنح الدول الأعضاء القروض اللازمة لتمويل مشروعات البنية الأساسية، والتي تكتنفها ثورة توقعات تتعلق بإمكانية أن تحل محل مؤسسات بريتون وودز (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي). ومن الجدير ذكره في هذا الشأن أنه ثمة دول أوروبية كبرى انضمت لعضوية هذا البنك الذي أسسته الصين في عام 2014 لعل أهمها بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا.
ويتوجس الأوروبيون خيفةً من مآلات التحركات الصينية ونجاحها في إقناع إيطاليا بالانضمام إلى المبادرة؛ فثمة تحليلات تشير إلى أنَّ مثل هذه التحركات الصينية تستهدف بالأساس تقسيم الاتحاد الأوروبي عن طريق تقديم القروض وتمويل مشروعات البنية الأساسية، من خلال الشراكات الثنائية وليس التعامل مع الاتحاد الأوروبي باعتباره كيانا ينضوي تحته الدول الأوروبية، لا سيما لتلك الدول التي تعاني أزمات اقتصادية، والتي لم تفلح حتى الآن في تجاوز مثل تلك الأزمات. أضِفْ إلى ذلك الصورة الذهنية للصين في أعين الكثيرين، ليس فقط الأوربيون، ومفادها أنَّ الصين دائمًا وأبدًا تكون الرابح الأكبر إنْ لم يكن الوحيد من علاقتها الاقتصادية. ولا أدل على ذلك من أزمة الديون المتفاقمة التي باتت تواجه كثيرًا من الدول الأعضاء بمبادرة الحزام والطريق؛ إذ أضحت هناك ثماني دول توجِّه قرابة الـ50% فأكثر من ناتجها المحلي الإجمالي لخدمة ديونها للصين ألا وهي جيبوتي، جزر المالديف، الجبل الأسود، باكستان، قيرغيزستان، منغوليا، مونتيجرو، لاوس، طاجيكستان.
وصفوة القول إنَّ الطريق ليست معبَّدة بالورود أمام قاطرة مبادرة حزام واحد.. طريق واحد في أوروبا لا سيما في ضوء ما أشرنا إليه آنفًا من مدركات تحكم العلاقات بين الجانبيْن الصيني والأوروبي، وتشكِّل الصورة الذهنية قاطبةً حول الدور الصيني على الصعيد الدولي. لكن يبقى دائمًا التعويل على الضمانات التي يستطيع الجانب الصيني تقديمها لكسب ثقة الشركاء الأوربيين للانضمام إلى المبادرة، وألا تكون مجرد حبر على ورق، أي اتخاذ ما يلزم من إجراءات لضمان دخولها حيز التنفيذ الفعلي، بما يضمن تحقيق الربح للجميع وليس الصين وحدها. ولعل مخرجات القمة المصغرة التي عُقِدت بالإليزيه هي خطوة أولى على الطريق؛ إذ لخَّص رئيس المفوضية الأوروبية ما أسفرت عنه تلك القمة في قوله: "لقد اعتمدنا استراتيجية جديدة وسندعم كل الجهود التي ستسمح للصين وأوروبا وآسيا وأفريقيا للتقارب بين بعضها البعض اقتصاديًا وتجاريًا". ولربما تتكشَّف لنا معالم تلك الاستراتيجية تدريجيًا خلال الأيام المقبلة تفضي إلى انضمام دول أوروبية كبرى لقاطرة الحزام والطريق.
aXA6IDE4LjIxOS4yNTMuMTk5IA== جزيرة ام اند امز