والعرب اليوم يتفاوضون على أقل من ثلث ما كان يطرحه الحبيب بورقيبة
الحديث هنا فقط فيما يخص وجهة نظر الزعيمين الراحلين في القضية الفلسطينية، دون أن نتطرق لأي جانب آخر من رؤى وحياة هذين الزعيمين رحمهما الله .
كان للزعيم التونسي الحبيب بورقيبة رؤية سياسية فيما يخص القضية الفلسطينية والنزاع العربي الإسرائيلي، طرحها على الأمة العربية ولأكثر من مرة، وجُوبِه بحملة شرسة من الحكومات والشعوب، واُتِهم وقتها بالخيانة.
وتتلخص رؤية بورقيبة في حل الصراع مع إسرائيل بعدة نقاط أهمها: الاعتراف بإسرائيل كدولة والقبول بقرار التقسيم الصادر عن مجلس الأمن عام 1947 والذي حدد لإسرائيل 15 ألف كم2 ولفلسطين 11 ألف كم 2، وجعل القدس كلها تحت سيطرة دولية لحين فض النزاع حولها، وفي أكثر من خطاب ذكر أن الواجب اتباع سياسة (خذ وطالب) وأن إمكانية العرب هي التي تحدد طريقهم في الكفاح لا مجرد أمانيهم، وأن العرب غير قادرين البتة على الانتصار على إسرائيل لأنهم لا يحاربونها فقط؛ بل يحاربون أمريكا وكثيراً من دول العالم التي ستهب للدفاع عن إسرائيل، لأنهم يعترفون بهم وبدولتهم ولا يرون ضرورة "إزالتها" كما يرى العرب! وأن هذا هو الطريق الوحيد الذي يضمن للفلسطينيين بعض حقوقهم، ويجنب المنطقة والشعوب ويلات الحروب .
ما زالت الأمة العربية وشعوبها بين هاتين "المدرستين"، تصنع الأولى أبطال الخطب والشعارات وتتسيّد على الشعوب وأفكارها، وتحقق المجد والشهرة دون أي نتائج سوى الدمار والخراب، وتُحارب الثانية رغم عقلانيتها وإثبات الأيام صدق رؤيتها.
في المقابل كان لجمال عبدالناصر رؤية أخرى مضادة تماماً، "ما أُخِذ بالقوة لن يسترجع إلا بالقوة"، وأن الأمة العربية قادرة على رمي إسرائيل في البحر خلال ست ساعات! وأنه لا يمكن بحال الاعتراف بإسرائيل كدولة ولا التعايش معها، وأن الحرب هي السبيل الوحيد للتعامل معها.
كانت الأمة وقتها - كل الأمة - مؤمنة برؤى عبدالناصر تنادي بها وهي شعارات هذه المرحلة وربما إلى الآن.
في عام 1965 وفي قمة عربية تم رفض حتى تسجيل مذكرة الرئيس التونسي بورقيبة برؤيته لحل الصراع مع إسرائيل، ورفض توزيعها على الوفود العربية، وأصدرت القمة قراراتها برفض دعوى التعايش مع إسرائيل، وصممت على طريق الكفاح والحرب كما ذكر البيان .
عبدالناصر كان وما زال رمزاً عربياً تكاد تقدّسه كل الجماهير، وهو أيقونة المقاومة والتحرير والتحرّر رغم أنه - في القضية الفلسطينية - لم يحقق أي انتصار أو تقدم! لكن مع كل هذا بقي رمزاً بخطاباته ورؤيته!!
والعرب اليوم يتفاوضون على أقل من ثلث ما كان يطرحه الحبيب بورقيبة، وقد عادت أغلب دول المواجهة إلى ما قاله وطرحه واقترحه، وما تسعى إليه الأمة العربية اليوم مع إسرائيل وأمريكا هو جزء بسيط مما كان مطروحاً وقتها، وقد أثبتت تلك الرؤى السياسية لبورقيبة أنها قرأت الواقع والمستقبل بمسؤولية وبعمق، وأثبتت الأحداث المستقبلية ذلك، ومع صدق رؤاه كما أثبتت الأحداث إلا أن الأمة لا تعترف له حتى بهذه الواقعية في قراءة المستقبل، وربما ما زال البعض يخوّنه!
وما زالت الأمة العربية وشعوبها بين هاتين "المدرستين" تصنع الأولى أبطال الخطب والشعارات وتتسيد على الشعوب وأفكارها وتحقق المجد والشهرة دون أي نتائج سوى الدمار والخراب، وتُحارب الثانية رغم عقلانيتها وإثبات الأيام صدق رؤيتها! وما زالت الأمة مولعة بالخطب الرنانة والشعارات البراقة، ولا تضع للعقلانية أي اعتبار ... كنا وما زلنا !!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة