جيمس بوند.. لا يصلح إلا لوصفات الأكل الجاهز
مهما تغير العالم لن يُغيّر "العميل 007" نفسه وشخصيته كما عرفت منذ قدمها الممثل الاسكتلندي شون كونري.
لا يصلح جيمس بوند إلا للأكل، بوصفات جاهزة ومسبقة غير قابلة للمس، حتى لو تدخلت البهارات لتعديل النكهة أحياناً بتغيير الوجوه التمثيلية وإجراء تعديلات في حبكة الحكاية، أما كل ما يتعلق بالروح والعقل والمسؤولية الاجتماعية فذلك من اختصاص عالم سينمائي آخر أبعد ما يكون عن السلسلة الشهيرة.
ومهما تغير العالم وطرق تفكيره، لن يُغيّر "العميل 007" نفسه وشخصيته كما عرفت منذ قدمها الممثل الاسكتلندي شون كونري، إذ "لا يمكن لأي مخرج أومنتج أو حتى كاتب سيناريو أن يدعي قدرته على التلاعب بالشخصية كما يريد، اللهم إلا مخترعها"، كما تقول منتجته ميشيل ويلسون في حوار لمجلة "بروميير الفرنسية".
في واقع الأمر شخصية جيمس بوند ليست عصية على التغيير، فالرجل استطاع أن يتكيف مع كل التغيرات التقنية والتكنولوجية التي طرأت على عالمنا منذ ستينيات القرن الماضي حتى إنتاج نسخته الأخيرة "سبكتر"، ونجح في مراعاة الاختلافات التي تترتب على تغيير الوجوه التمثيلية التي أدت شخصيته، إلا أن إصرار الحفاظ على جوهر زير النساء العميل الوسيم، يحكمه حسابات البيزنس التي غالباً ما تفضل اللعب في المناطق الآمنة للتسويق التجاري، فحسابات البيزنس هي الأساس، والميزانية التي تضاعفت من مليون دولار فقط لأولى أفلام السلسة عام 1962 إلى نحو 350 مليون دولار لفيلم "سبكتر" عام 2015، لا بد أن تضاعف عدة أمثال في الإيرادات, وهذا أمر لا جدال فيه.
هنا لا مكان للعواطف ولا قبول لحديث عن توجه فكري ووظيفة ورسالة إنسانية يفترض أن يقدمها الفيلم إن كان ذلك سيتطلب خروج شخصية "جميس بوند" من الدائرة الاستهلاكية المغلقة عليه، حتى لو كلف ذلك التخلي عن عام من التحضيرات والاستغناء عن خدمات المخرج داني بويل في تنفيذ النسخة المقبلة من السلسلة، بسبب ما أسمته الجهة المنتجة بـ"اختلاف وجهات النظر الفنية".
هذا ما عاد ليؤكده المخرج بويل، الذي كشف أن انسحابه من إنجاز الفيلم يعود إلى رفض الجهة المنتجة إجراء تغييرات في شخصية بوند لاندماجه أكثر مع واقع المجتمعات المستجد، وانخراطه في الحملات الإنسانية التي انطلقت من هوليوود لتحارب التحرش الجنسي والاعتداءات الجسدية التي تتعرض لها النساء، وتطالب بالمساواة بينهن وبين الرجال، مثل حملة "أنا أيضا"، التي بدأتها الممثلة الأمريكية إليسا ميلانو، عبر تغريدة على حسابها بموقع تويتر، ومبادرة "انتهى الوقت" التي أطلقتها مجموعة من نجمات هوليوود، وهو الأمر الذي وجد فيه منتجو "جيمس بوند" خروجاً عن جوهر شخصية العميل 007، بوصفه رجلاً وسيماً وقوياً لا يكف عن الإطاحة بالأشرار والخونة بملابسه الأنيقة ومسدسه الفريد وأسطول من السيارات المذهلة والساعات وسواها، والتي تكمل ملامح غوايته للنساء الجميلات اللواتي لا يقاومن حبه، حتى لو انتهى الأمر بهن إلى الموت.
إن صدق ما قاله المخرج داني بويل من أسباب انسحابه من إخراج النسخة المقبلة من جيمس بوند، فتلك ليست المرة الأولى التي تنأى السلسلة الشهيرة بنفسها عن قضايا العالم الإنسانية الملحة لصالح الصورة الاستهلاكية المغرية لبطلها، إذ سبق وتجاهلت موت الكثيرين بمرض الإيدز في ثمانينيات القرن الماضي، إذ ظل جيمس بوند يتنقل بين مخادع الفتيات بلا أي مبالاة، في وقت كانت أوروبا كلها تعج بحملات توعوية بهذا المرض الخطير وأسبابه.
قد يقول البعض إن بطل النسخة الـ19 "العالم ليس كافياً" من سلسلة أفلام جيمس بوند حارب على نحو غير مباشر التدخين، حين علق داخل سيارته عبارة "ممنوع التدخين"، رغم أنه في روايات إيان فليمينج، مخترع شخصية العميل 007، يقال إن هذا الأخير كان يدخن 60 سيجارة يومياً، ألا يعد ذلك تغييراً لصالح فكرة نبيلة؟
ببساطة هذا التغيير الطفيف كان مجرد عنصر جاذب للمزيد من لفت النظر إلى عنصر أهم وأكبر، فتلك العبارة كانت موجودة في لوحة معلقة داخل سيارة "بي.أم.دبليو" يركبها بطل النسخة "بيرس بروسنان" ويسوق لها تجارياً.
باختصار لا يلتفت منتجو سلسلة جيمس بوند إلى أن العالم يتغير حولهم إلا عندما يتعلق الأمر بالاستثمار التجاري لشعبية بطلهم.
تسأل إحدى الصحفيات بطل "العالم ليس كافياً" قائلة: "أنت ترتدي ساعة سويسرية، وتركب سيارة ألمانية، وتلبس ثياباً إيطالية، وأنت أيرلندي"، فيجبيها بروسنان: "العالم يتحوّل ويتغير، وهذه الأشياء موجودة في الفيلم حقاً".
بالتأكيد توجه السينما، ولا سيما الأمريكية، إلى الترويج الدعائي لعدد من المنتجات، وهو أمر بات معتاداً، بل وصار اتجاهاً معروفاً لسلسلة أفلام جيمس بوند، ولكن يبدو أن الخشية من انخفاض إيرادات عملية التسليع المتبعة في هذه السلسلة، تقف خلف إصرار صناعها على عدم المساس بجوهر شخصية جيمس بوند القاتل العبثي زير النساء الوسيم، الذي يعيش بمنتهى مظاهر الترف والأناقة، وبالتالي إصرارهم على ابتعادها عن قضايا المجتمعات حولها.
اليوم يعرف العالم نوع السيارات التي يركبها جيمس بوند، ويسارع البعض لاقتناء مثيلاتها أو التنافس عليها في المزادات العلنية، تعرف الناس نوعية الساعات والبزات الأنيقة التي كان يلبسها والأماكن التي يروج لها مقابل ثمن مدفوع، ولكن لا أحد يذكر قضية حقيقية وكبرى وملحة حملها الرجل، غير ذلك الاستثمار الساذج للانقسام بين المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي في العالم قبيل تسعينيات القرن الماضي في خوض جيمس بوند معاركه ضد الأشرار الروس وسواهم.