إن توظيف القدس ومكة المكرمة في الاستراتيجية الإيرانية وامتداداتها في لبنان واليمن والعراق لا علاقة له بالدين.
يحلم نظام آيات الله في إيران باستعادة أمجاد الخلافة الفاطمية؛ أكبر دولة شيعية في التاريخ الإسلامي تم تدشينها في مكة المكرمة، وسقطت مع شعارات تحرير القدس.
وتسعى إيران وأتباعها في لبنان واليمن وغيرهما إلى توظيف الرمزين: مكة والقدس لتأسيس إمبراطورية مذهبية جديدة غير قابلة للسقوط، من خلال التوظيف السياسي للقدس ومكة، واحتكار هذا التوظيف دوناً عن بقية المسلمين، وهنا تأتي شعارات القدس في كل المؤسسات والسياسات الإيرانية، وتأتي كذلك المطالبات بتدويل الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة، أو الاستيلاء عليهما من خلال العملاء في اليمن ولبنان، أو الأتباع والأزلام في قطر.
انطلقت الدعوة لتأسيس الخلافة الفاطمية من مكة المكرمة في لقاء بين الدعاة الإسماعيليين الشيعة والحجاج من قبيلة كتامة من الأمازيغ في شمال أفريقيا، وتم الاتفاق على أن تدعم قبيلة كتامة تأسيس دولة شيعية إسماعيلية على أنقاض دولة الأغالبة المالكية في تونس عام 909م، وتوسعت الدولة الفاطمية حتى شملت كل شمال إفريقيا ومصر ومعظم الشام والحجاز ومالطة وصقلية في إيطاليا، وتم الدعاء للخليفة الفاطمي لمدة عام في مساجد بغداد، وتم القضاء على هذه الدولة عام 1171م على يد صلاح الدين الأيوبي، الذي كان وزيراً فاطمياً في أول عمره، ولكنه استطاع حشد الشعب المصري خلفه من خلال دعوته لتحرير القدس من الصليبيين، وتحت هذا الشعار قضى على الدولة الفاطمية وحول الأزهر الشريف من جامعة إسماعيلية شيعية إلى جامعة سُنية تدرِّس جميع المذاهب، حتى أنه "دَرَسَ"، أي طحن كتب الدولة الفاطمية تحت النوارج (جمع نورج وهو آلة فصل حب القمح عن القش عند المصريين منذ الفراعنة وحتى نهاية سبعينيات القرن العشرين)، وسميت المنطقة التي تم فيها طحن الكتب "الدَرَّاسَةُ" وهي تقع حاليا خلف الجامع الأزهر.
وقعت قطر ومرتزقتها في الفخ الإيراني؛ فدعوا إلى تدويل الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة، في حالة من المناكفة الصبيانية مع المملكة العربية السعودية، دون أن يدركوا أنهم قد تحولوا إلى أدوات لتنفيذ الاستراتيجية الإيرانية بعيدة المدى
منذ قيام الثورة الخمينية في إيران أدرك دعاة تصديرها ونشر المذهب وإعادة خلافة آل البيت أن الدعوات الحقيقية التي تتحول إلى أفعال واقعية تنطلق من مكة المكرمة؛ قبلة المسلمين، ومحط قلوبهم، وأن من يحكم في مكة تلين له قلوب المسلمين في العالم، وتصغي له آذانهم، وتستجيب لندائه أفئدتهم، وأن القدس جوهرة المسلمين، ومن يتخاذل عن نصرتها يفقد هيبته وتسقط شرعيته، ومن يرفع شعار تحريرها تغفر له الأمة أخطاءه وكوارثه، وتتعلق بأهداب ثوبه، وترفعه فوق رؤوسها وتكون له تبعاً، فلولا أن حرر صلاح الدين القدس لجعله التاريخ في موقع آخر على ما فعله بالفاطميين وكتبهم وعلومهم.
وقد تعلم السيد حسن نصرالله ومعه حزب الله الدرس فرفع شعار القدس وبه نجح في أن يكون لفترة محدودة نجم الأمة، وأن تتعلق به قلوبها، ولكنه لم يستطع أن يحافظ على هذه الصورة، فاستخدم سلاحه ضد شعبه في بيروت في مايو 2008، ثم انخرط بعنف في الحرب الأهلية السورية؛ فخسر معظم ما كسبه في السنوات الماضية، وعندما تحول إلى بيدق لنظام آيات الله وتدخل في اليمن والعراق خسر كل شيء.
فبالقدس تخدع إيران الأمة الإسلامية فترفع شعارها وتشكل جيشاً لها، لا يذهب إلى القدس، ولكن يضحي على مذبحها الخيالي بدماء العراقيين والسوريين واليمنيين.
انطلاقا من هذه الحقيقة التاريخية والمعاصرة نستطيع أن نفهم لماذا ترفع إيران وعملاؤها في لبنان واليمن شعار القدس وفلسطين؟ ولماذا يصبون اللعنات على الاحتلال الإسرائيلي؟
إنها العقدة الفاطمية مع صلاح الدين، فقد تعلمت إيران من حنكة من قضى على أعظم دولة للشيعة في التاريخ، وكيف استطاع أن ينجح في تدميرها؟ وأن ينجو تاريخياً من كل ما ارتكبه من أخطاء في حربه ضد الدولة الفاطمية من خلال التعلق بالقدس وتحريرها، وبالدرجة نفسها تدرك إيران أهمية مكة المكرمة والمدينة المنورة في شرعية الحلم الإيراني الجديد، لأن الشرعية الإسلامية تبدأ من هناك، والدولة الفاطمية بدأت من هناك، ففي بلاد الحرمين يجتمع المسلمون، وغير العرب منهم أهم بالنسبة للفاطميين قديما وللإيرانيين حديثا من العرب، فتوظيف الدعوة السياسية لموالاة آل البيت عليهم السلام تكون أكثر يسراً ونجاحاً مع غير العرب؛ الذين لا يعرفون كثيراً عن تلك الحيل التاريخية ولم يعايشوها وتتعلق قلوبهم بآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن ينظروا إلى أهداف من يدعونهم لذلك، وخلفياته المذهبية والسياسية المعاكسة لكل ما يمثله آل البيت عليهم السلام.
هنا يمكن أن نفهم لماذا تثير إيران المشاكل أثناء الحج منذ قيام الثورة الخمينية حتى اليوم، وتسعى لإعطائها الفرصة للقيام بنشاطات سياسية أثناء الحج من أجل نشر الدعوة الفاطمية الجديدة، ومحاولة إعادة الخلافة الفاطمية في طهران وليس في القاهرة، ولعلنا ندرك هنا دلالات إطلاق اسم "فاطميون" على فيلق الأفغان في سورية، إنها رمزية تاريخية قابلة للتوسع لتشمل أجناساً أخرى.
وقد وقعت قطر ومرتزقتها في الفخ الإيراني؛ فدعوا إلى تدويل الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة، في حالة من المناكفة الصبيانية مع المملكة العربية السعودية؛ دون أن يدركوا أنهم قد تحولوا إلى أدوات لتنفيذ الاستراتيجية الإيرانية بعيدة المدى، وللأسف هكذا يكون سلوك الصبيان عندما يتوهمون أنهم قد صاروا رجالاً.
إن توظيف القدس ومكة المكرمة في الاستراتيجية الإيرانية وامتداداتها في لبنان واليمن والعراق لا علاقة له بالدين، أو بآل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا بالقدس أو مكة، إنه ذريعة سياسية انتهازية من أجل حلم إمبراطوري في غير زمانه، وبعيداً جداً من مكانه، ولكنها الأحلام عندما تغلب تفعل بالعقول فعل الإدمان فتخلط بين الواقع والأوهام.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة