يتصرف رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في آخر أيام حكومته وكأنه لن يغادر السلطة أبدا، أو أنه سيعود إليها بعد فترة قصيرة.
ثمة تقارير تتحدث عن احتمال ترشحه للأمانة العامة لحلف شمال الأطلسي.. وهناك أيضا من يعتقد في إمكانية ترشحه لرئاسة الحزب ثانية قبيل الانتخابات البرلمانية في 2024.
ما هو واضح حتى الآن أن نهج جونسون مستمر في الحكومة المقبلة التي سيرأسها بعد الخامس من سبتمبر الجاري وزير الخزانة السابق ريشي سوناك أو وزيرة الخارجية ليز تراس.
ولكن هذا الواضح قد يتبدل بسرعة، لأن الأوضاع التي يعيشها البريطانيون، والعالم كله، اليوم، قابلة للانفجار ومعرضة لتغير كبير.
جونسون الذي قال للبريطانيين مطلع عام 2020 إنهم سيخسرون أحبّتهم بسبب الجائحة، يبشّرهم اليوم بفواتير كهرباء وغاز تقصم ظهورهم مطلع 2023. وإنْ كان لا ناقة ولا جمل لرئيس الوزراء في كارثة الوباء، فإنه أسهم في تفجر أزمة الطاقة عالميا من خلال مشاركة الولايات المتحدة في إدارة الخصومة الغربية مع روسيا.
في البداية، ركب جونسون موجة الحرب الأوكرانية ليحمي نفسه من الإقالة على ضوء ما بات يُعرف بـ"فضائح الحفلات".. وعندما فشل في مسعاه واضطر إلى الاستقالة من الحكومة في نهاية المطاف، بدأ يبحث عن فوائد داخلية أو خارجية جديدة يمكن أن يجنيها من الحرب.. وربما تكون "رئاسة الناتو" أكبر المكافآت.
في عالم السياسة يحتاج تحقيق الأحلام إلى تفاهمات ومساومات وتحالفات كثيرة.. وكلما كبرت الأحلام زادت الرهانات وارتفع سقف المطالب من الأصدقاء والخصوم.
وهنا يبرز سؤال مشروع حول قدرة جونسون على إقناع الداخل البريطاني والأعضاء في حلف الناتو بأنه "المرشح المثالي" لخلافة ينس ستولتنبرغ.
في واقع الحال، ثمة انقسام في حزب المحافظين حول جونسون. وهذا الانقسام قد يزداد حدة بعد حسم معركة اختيار زعيم جديد للحزب ورئيس للحكومة في الخامس من سبتمبر الجاري. لكل من المرشحين مؤيدون ومعارضون بين النواب المحافظين، ولا يوجد اتفاق حول الزعيم الجديد، أو صواب الاستمرار في نهج السلف.
تداعيات ارتفاع كلفة المعيشة في المملكة المتحدة تكبر ككرة الثلج كل يوم.. وهذه التداعيات، التي يعيدها جونسون إلى الحرب الأوكرانية بالدرجة الأولى، أفرزت نقمة شعبية واضحة على الحزب الحاكم.. حتى إن استطلاعات الرأي تقول إن البريطانيين باتوا يفضلون زعيما للبلاد من حزب العمال لأول مرة منذ ثلاثة عشر عامًا.
السخط الشعبي على المحافظين بدأ في عهد جونسون، ولن ينتهي إلا إذا أصلح خليفته ما أُفسد خلال العامين الماضيين في الاقتصاد والعمل والأمن والعلاقات بين الدول الأربع المكونة للمملكة المتحدة.. ناهيك بالعلاقات الخارجية للمملكة، خاصة مع الاتحاد الأوروبي، سواء بسبب "بريكست" أو الحرب الأوكرانية-الروسية.
إصلاح المشكلات الداخلية والخارجية، التي ظهرت في عهد جونسون، ربما يحتاج إلى ثورة على نهجه في التعامل مع الملفات كافة.
قد يتوجب على الحزب أن يختار بين استمراره في قيادة الدولة والتخلي عن أحلام رئيس حكومة تصريف الأعمال، أو تحقيق أحلام جونسون وتسليم مفاتيح المنزل رقم 10 إلى "العمال" في 2024.
يحلم جونسون بأن ينتصر الأوكرانيون ويطردوا الروس حتى من شبه الجزيرة القرم.. كما يرغب في أن ينهار الاقتصاد الروسي مقابل انتعاش اقتصاد بلاده والغرب.. ولكن المشكلة أن الأرقام تقول إن اقتصادات بريطانيا وأوروبا وأمريكا تعثرت في ركود وشح في الطاقة وارتفاع أسعار السلع حتى ضاق الناس ذرعًا بالحكومات.
لا شك أن الاقتصاد الروسي تضرر أيضا من الحرب والعقوبات الغربية على موسكو.. ولكن ليس بذات القدر الذي طال بريطانيا وأمريكا ودول الاتحاد الأوروبي.. وبالتالي لا يبدو أن رغبة جونسون في إقناع سكان المملكة المتحدة والشعوب الغربية عامة بالتضحية حتى بلقمة عيشهم من أجل دعم أوكرانيا، أمر سهل ويقبل التحقق.
في حقيبة أحلام جونسون كان أيضا أن يرضخ الاتحاد الأوروبي للشروط البريطانية في العلاقة بين بروكسل ولندن بعد "بريكست"، ولكن الاستعصاء في تحقيق هذا الحلم بات يهدد وحدة المملكة المتحدة.. الحياة السياسية في أيرلندا الشمالية شبه مشلولة، واسكتلندا لا تُظهر أي نية للتراجع في مشروع الانفصال عن بريطانيا.
لم تنتهِ أحلام جونسون هنا، فقد كان يتطلع إلى اتفاقيات تجارة حرة مع أمريكا وغيرها من دول العالم، ولكنه فشل في ذلك.. وما تعيشه بريطانيا اليوم من تراجع في الصادرات ونقص في العمالة وضعف في الخدمات وارتفاع في معدلات الفقر، يقول إن الحكومة المقبلة يجب أن تغير خططها في تعويض خسائر "بريكست" اقتصاديًّا.
في المحصلة، لم تتحقق أحلام جونسون عندما كان رئيسا للوزراء.. بل على العكس، تحولت جميعها لكوابيس تقض مضاجع البريطانيين.. أما أمنياته الجديدة التي سيبتهل لأجلها خارج أسوار 10 "دوانينج ستريت"، فلا يزال الوقت مبكرا للحكم على فرصها، ولكن يُخشى أن يحمل تحققها تداعيات تتجاوز حدود المملكة المتحدة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة