الله يمنح ويمنع لحكمة يعلمها، والزمن له دورات، تُعطي لمناطق من الأرض القوة والسيادة في أوقات، ثم يدور عليها الزمن لتأخذ محلها أخرى.
النافع في أمر تلك الدورات أن الأزمنة الفائتة والحضارات القديمة تترك لنا "التاريخ" والشواهد عليه، ما يُعيننا على تذكر حالنا والعمل لاستعادة المجد أو أخذ العبرة لإصلاح الخطأ.
لذا، تفخر الدول بما توصلت إليه من تاريخها وتُنفق المليارات للبحث عن المزيد، وتعتبر كل ما مر عليه 100 عام وله أهمية "تاريخ" وتضمه لإدارتها كي تحافظ عليه.
التاريخ هو ما يعرّفنا هويتنا.. مَن نحن؟ ومن أين جئنا؟ ويقال إن مَن لا يعرف تاريخه لن يعرف مستقبله.
لكن التاريخ ليس فقط الأحداث المسطورة في الكتب، بل الأهم من تلك الحكايات هي الشواهد الواقعية القائمة بالفعل عليها.. اللغة والثقافة والأكلات الشعبية بأسمائها المعروفة لدينا.. بل وتلك الجدران والقصور والمعابد والمساجد والشجر أحيانا وحتى المدافن.. الجدران والأراضي لها تاريخ، وبسبب تاريخها لها أهمية اقتصادية.. حينما تملك شجرة عمرها عشرات أو مئات أو آلاف السنين، قد يأتيك الناس من آخر العالم ليشاهدوها فينتعش الاقتصاد مرة، فيعودوا هم لبلادهم ليتحدثوا عنك ويرسلوا إليك غيرهم بقوة الكلمة ودعايا مجانية، لينتعش اقتصادك مرة بعد أخرى.
أليست للشجرة حينها قيمة إضافية؟ ألا تُجدي نفعا غير كونها شجرة تنقي الأجواء وتعطيك الأكسجين؟
نستيقظ لنجد مقبرة طه حسين "عميد الأدب العربي"، الذي تحدث عنه القاصي والداني في حياته وعند وفاته وبعدها، وقد كُتب عليها عبارة "إزالة".. هل يملك العالم من تلك الآثار الكثير؟ وهل نملك نحن طه حسين جديدا حتى نفرّط فيه بكل هذه السهولة؟
جدران البيوت القديمة ومدافن الشخصيات العامة، التي حفرت بصماتها في التاريخ من أبناء قومك.. أليست شاهدًا على عظمة أبناء البلد؟ على قدرة مواطنيها على تغيير شيء ما في هذا العالم ورفع اسم بلادهم؟ على قدرتك أنت شخصيًّا على تحقيق ما تروم مثلما حققه أسلافك؟ ألا تستحق تلك الدلائل الصون والحفظ والتطوير؟ هل من المنطق هدمها لبناء شيء آخر ليس بالقيمة التاريخية والاقتصادية والثقافية نفسها؟
الخطورة في الأمر ليس فِقدان الشيء أو "عنصر الجذب الاقتصادي" فقط، لكن الأخطر هو استحالة تعويضه.. مثلما شُبهت الكلمة المنطوقة بالرصاصة التي يستحيل إعادتها إذا ما أُطلقت.
الشواهد التاريخية يستحيل إعادتها للحياة إذا ما هُدمت. إن لم نستطع الحفاظ على هويتنا سنفقدها للأبد، ونندم أجيالا وراء أجيال.. حينها لن يترحَّم علينا أحفادنا مثلما لم نترحم نحن على أسلافنا.
أرى العصر الآن يجري جريا محموما في تلك الطريق.. نفقد كل ما يحافظ لنا على هويتنا بمنتهى السهولة وبلا لحظة تفكير.. لا نسعى لتعلم اللغات للتواصل، بل لنستبدل بها لغتنا الأم، ونعتبر تعبيراتنا دون المستوى، نهدم أجزاء كبيرة من آثارنا لن تُعوض ثانيةً، نطلق أسماء غريبة على أكلات معروفة من آلاف السنين لنعطيها طابعًا "مودرن".
الأمر به كثير من انعدام الثقة بالنفس، وعقدة الخواجة، بل وانتقاص من الذات.. صرنا بعد أن كنا نفتخر بتاريخ أمتنا الممتد لسنوات طويلة، نتغنّى بنغمة "الحي أبقى من الميت"، فنرمي ممتلكات الميت من "الشباك"، حتى لو كانت ممتلكاته بها خزينة ذهب خالص قد يُغنينا لبقية العمر.. صرنا نعتبر أنفسنا بهويتنا ولغتنا وتاريخنا أقل من غيرنا ونسعى لتقليده في كل شيء، كي نثبت أننا لسنا أقل منه. ويفوت علينا أن تلك الشعوب الأخرى كانت وما زالت وستظل تأتي لترى تاريخا ينبهرون به ولا يملكونه.. فهل من المنطق أن نهدم ما يميزنا حتى لو كان من الماضي؟!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة