قرأت خبًرا غريبا عن معلمين في مدارس جبال "التبت" وزّعوا على طلابهم مُنبّهاتٍ تعمل بتقنية الذكاء الاصطناعي، مهمتها تذكيرهم بالعودة إلى اللحظة "الآن" حين تضيع عقولهم في اللا وعي بين الماضي أو المستقبل.
وهنا تبادر سؤال إلى ذهني فور قراءتي الخبر: ماذا سيقول هؤلاء لو عرفوا بمن يعيشون اختلالا وظيفيا ينتج ثقافة مادية تعيسة عنيفة وغير إنسانية؟
ماذا سيقولون لو شاهدوا كيف يبدو الناس في المراكز التجارية والمقاهي، "أجسادهم هنا، وعقولهم هناااااك تائهة"، ملامحهم قاسية وعيونهم جاحظة يبحثون عن شيء ما، ولا يعرفون ما هو؟
الفيلسوف "ديكارت" يقول "أنا أفكر إذن أنا موجود"..
لقد عبّر الرجل في الحقيقة عن الخطأ الأساسي، المتمثل في مساواة التفكير بالكينونة، فالعقل أداة رائعة إن استخدم بشكل صحيح، ولكن في الواقع هو الذي يستخدمنا، لذلك نعاني من مرض التفكير المزمن.
منذ الأبدية وعهد الأنبياء والمستنيرين تمت الإشارة إلى مفهوم "الآن" كمفتاح للبُعد الروحاني، ففي الكنائس يرددون قراءات الإنجيل القائلة: "لا تهتموا بالغد لأن الغد يهتم بما لنفسه"، وأيضا في الدين الإسلامي برزت كثير من الإشارات تؤكد أهمية الاعتناء باللحظة الآنية.
ولعل ذلك يقودنا لما في "الآن" من حقيقة، فعند غياب الزمن كل مشكلاتك ستجد لها حلا، فتنظر إلى مفردات الحياة من حولك بوعي ومعنى جديدين، إذ إن الإدراك الخارجي لها فقط يبدو باهتًا بخلاف الوعي الباطني الروحي، الذي يحولها من مجرد صورة مسطحة فاقدة للحياة إلى كائن حي، بعد أن تحررتَ من العقل المُحلل، وعشْتَ البُعد السرمدي الروحي فاختلفَ تذوقك للحياة.
كنْ حاضرًا! كنْ منتبها لأفعالك وردّاتك! لا تحكم ولا تحلل! راقب "أين يتحرك عقلك".
للأسف نحن نعاني من معضلة الزمن النفسي، وهو مرض عقلي مزمن، إذ تنجم السلبية من وهم الزمن وإنكار الحاضر، فالارتباط بالقلق والتوتر والإحساس بالذنب والندم والحقد والحزن سببه الانغماس في الماضي، وإذا سيطر المستقبل على تفكيرك فإنك تعيش حالة من القلق والترقب والشقاء بخلاف العيش في اللحظة الراهنة التي تجعل لحياتك معنى، فتشعر بفرح الكينونة.
وعندما تمجِّد هذه اللحظة الراهنة تشعر بهذا الفرح ويختفي الكفاح وآلامه، فالانفصال عن "الآن" هو انفصال عن المصدر، والتحرر من الزمن هو تحرر من الحاجة النفسية إلى الماضي أو المستقبل، واكتفاؤك بالآن هو أعمق تحول يمكن أن يعيشه وعي الإنسان.
ففي "الآن" لن يكون هناك خوف، قلق، غضب، بل حالة مستمرة من السعادة والهدوء، حيث يتجلّى التنوير في سكون الحاضر "هنا والآن"، عندما تكون حاضرًا كليًّا وكاملا ستشعر بطعم التنوير، وأنك بحاجة إلى الحضور لتعي الآن. ليس ذلك فحسب، بل إنك ستكون منتبهًا لكل أشكال التنوير في الحياة، لأن في داخلك حضورًا يساعدك على معرفة الحضور في الآخرين، فمثلا الناس المنغمسون في ذواتهم ينجذبون أكثر إلى الأشخاص الأكثر انغماسًا في الأنا، فالظلمة لا تتعرف إلى النور، وحده النور يتعرف إلى النور.
عندما تحضر هنا والآن، فأنت تتصل بوعيك الصافي الساعي للوصول إلى العالم اللا شكلي، الذي يحررك من الاتصال بالمظاهر..
كلما كنتَ حاضرًا تكن مستعدًّا للنور والوعي.
والناس عادة محبوسون داخل عقولهم لدرجة لا يعود جمال الطبيعة موجودًا بالنسبة إليهم، فعندما يرون الوردة يصفونها بشكل آلي عقلاني صامت ولا يرونها في هدوء وسكينة ويشعرون بروحها وقدسيتها، بدليل أننا نعيش في ثقافة يسيطر عليها العقل، فنرى مظاهر الفن الحديث مجردة من الجمال الروحي، لأن القائمين عليها عاجزون عن الاتصال بأرواحهم الداخلية.
"الآن" لا يحتاج منك إلى أن تنتبه للعالم الخارجي، بل عليك التركيز نحو الداخل فقط، وتقلل من استعمال العقل لتشعر بعمق السلام الداخلي..
لو يعرف الناس كم أنهم قريبون من حقيقتهم لعاشوا هنا والآن.
المفكر صلاح الراشد يقول: "الزمن أكبر عقدة في حياتك، إذا فككتها حللت الكثير من مشكلاتك"..
فالحاضر هو الحقيقة.. "فلتعش هنا والآن".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة