أزمة الصحافة في تركيا.. المؤشرات والأسباب
الصحافة في تركيا، مرشحة لمزيد من التراجع، بفعل تقييد حرية الإعلام. وتوجه السلطة نحو بناء تحالفات إعلامية جديدة موالية لها
كشف التقرير الصادر في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري عن المعهد الدولي للصحافة، أن تركيا لا تزال تحتلّ المركز الأول عالمياً بسجن الصحافيين؛ حيث يقبع في سجونها ما يقارب 120 صحفياً، كما أشار التقرير إلى أن وضع الإعلام لا يزال سيئاً، ولم يتحسّن منذ إنهاء حالة الطوارئ في عام 2018 بعد استمرارها عامين منذ الانقلاب الفاشل في صيف 2016.
ويثير ملف حرية الصحافة في تركيا الجدل بسبب الانتهاكات المستمرة من اعتقال الصحافيين والإعلاميين، وإلغاء بطاقاتهم الصحافية، وحظر المقالات، وغلق الصحف، ووسائل الإعلام التي تتعارض مع توجهات حكومة العدالة والتنمية.
- تقرير أوروبي يشير إلى "انتكاسة" لحرية الصحافة في تركيا
- لماذا جمدت تركيا تسلم الدفعة الثانية من إس 400؟
مؤشرات كاشفة
ثمة كثير من المؤشرات التي تكشف تراجع حريات الرأي وتقييد الصحافة في تركيا، يمكن بيانها على النحو الآتي:
سجن الصحفيين: كشف تقرير المعهد الدولي للصحافة الصادر في نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، أن الصحفيين يُسجنون نتيجة لحملة مطولة وذات دوافع سياسية ضدّ الإعلام، ويؤكد التقرير أن تركيا هي "أكثر دولة سجناً للصحفيين في العالم بلا منازع، على مدى نحو 10 أعوام". في المقابل أدان الاتحاد الأوروبي قيام تركيا قبل أيام بإعادة اعتقال الصحافي والروائي التركي أحمد ألتان، معتبرا أن ذلك يضر بمصداقية القضاء الذي يشهد تدخلات سياسية.
والواقع أن عددا كبيرا من القضايا الخاصة باعتقال الصحفيين منذ محاولة انقلاب صيف 2016 لا تزال معروضة على القضاء التركي، لكنه عاجز عن اتخاذ قرار حاسم فيها بالنظر إلى هيمنة حكومة العدالة والتنمية على السلطة القضائية، فبموجب التعديلات الدستورية التي حولت البلاد لجهة النظام الرئاسي، أصبح للرئيس التركي الحق في تعيين 4 من أعضاء مجلس القضاة والمدعين العامين البالغ عددهم 13 عضواً برئاسة وزير العدل. كما أن القضاء التركي يعاني أزمة هيكلية بعد إعفاء ثلث القضاة من الخدمة بتهمة الانتماء لجماعة "خدمة" المتهمة بتدبير الانقلاب في صيف 2016.
تأميم المؤسسات الصحفية: يسعى النظام في تركيا إلى الإمساك بمفاصل المشهد الإعلامي من خلال تأميم المؤسسات الإعلامية الخاصة، وظهر ذلك العام الماضي، في صفقة بيع أكبر مجموعة إعلامية في تركيا "دوغان ميديا" إلى رجل الأعمال دميراوران القريب من أردوغان، وصاحب ثاني أكبر مجموعة إعلامية عن أدلجة وتأميم الإعلام في تركيا.
وترسخ مشهد تأميم الإعلام التركي مع موافقة البرلمان التركي في 22 مارس/آذار عام 2018 على مشروع قانون يدرج قنوات البث على الإنترنت ضمن الصلاحيات الرقابية للمجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون، بما فيها YouTube. ويلزم القانون مقدمي الخدمات الإعلامية الذين يرغبون في تقديم خدمات البث في التلفزيون أو الراديو وخدمات البث الاختياري عبر الإنترنت فقط بالحصول على ترخيص بث من المجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون.
تبني خطاب التخوين: عشية الانقلاب الفاشل في يوليو/ تموز عام 2016، لجأت حكومة العدالة والتنمية إلى تبني خطاب يعتمد على التخوين والتشكيك في المؤسسات الصحفية التي تعارض توجهات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
واستناداً إلى تخوين الخصوم، تصاعدت عملية التطهير الواسعة ضد الصحافة والإعلام. ووصل عدد المعتقلين من الصحفيين وأصحاب الشركات الإعلامية إلى نحو 142 شخصاً، كما أغلقت منذ يوليو/تموز 2016 وحتى الآن بحسب اتحاد الصحفيين الأتراك نحو 172 وسيلة إعلامية، من بينها 16 قناة تلفزيونية و3 وكالات أنباء و33 إذاعة و45 صحيفة في مقدمتها صحيفة "زمان" المحسوبة على حركة "خدمة" التي يتهمها أردوغان بتدبير الانقلاب ونحو 15 مجلة أسبوعية إضافة إلى 29 دار نشر وتوزيع، الأمر الذي جعل أكثر من 2500 صحفي عاطلين عن العمل ناهيك بعدد معتبر من العاملين والموظفين الإداريين. كما علقت السلطات التركية بث عشرات قنوات فضائية موالية للأكراد من قبل القمر الصناعي "تركسات".
انتقادات دولية: تعرضت تركيا لانتقادات واسعة من المؤسسات الدولية، فعلى سبيل المثال أعرب تقرير المفوضية الأوروبية الأخير، والصادر في يونيو/ حزيران عام 2019 عن قلقه المتزايد حيال تراجع حرية الصحافة والإعلام في تركيا منذ محاولة الانقلاب التي أعقبتها حملة أمنية واسعة طالت الصحافيين. كما تحتل تركيا المرتبة الـ157 بين 180 دولة في مؤشر منظمة "مراسلون بلا حدود" لحرية الصحافة. كما قالت "هيومن رايتس ووتش" في تقريرها الصادر مطلع عام 2019 إن رفع حالة الطوارئ في تركيا لم يضع حدّا للعديد من المحاكمات التي استهدفت صحفيين، ولها دوافع سياسية خلال عام 2018، وفي الصدارة منهم عثمان كافالا، رجل أعمال ورئيس منظمة ثقافية مسجون ظلما.
تحديات متعددة
تُواجه الصحافة في تركيا كثيرا من التحديات التي تحد من فاعليتها وانتشارها، على الرغم من الأهمية المفترضة لها، وتتمثل أهم هذه التحديات في:
عدم توافر الحماية اللازمة للصحافيين: وهي مشكلة هيكلية يعاني منها الصحفيون في تركيا، حيث لا توفر مؤسسات الدولة الحماية الواجبة للصحفيين، وهو أمر تزاد خطورته مع الصحافيين المعارضين، ولذا يتعرض الصحافيون الأتراك في كثير من الأحيان للعقاب المباشر حال كتابة مادة مخالفة لقناعات الدولة.
قلة الإمكانيات المادية للوسائل الصحفية: تعاني المؤسسات الصحفية التركية من ضعف موارد التمويل، خصوصا بعد الانقلاب الفاشل في صيف 2016، حيث اتجهت الدولة إلى تعيين أوصياء على جانب معتبر منها، ناهيك بفرض ضرائب باهظة على المؤسسات الإعلامية الكبيرة.
فعلى سبيل المثال وفي سياق تقليص حضور المنابر الصحفية، والإعلامية المعارضة، تم في عام 2009 فرض ضرائب تصل قيمتها إلى نحو 25 مليون دولار على مجموعة "دوغان الإعلامية"، ما وضعها في أزمة مالية دفعتها لبيع جريدة "ميليت ديلى". وفي عام 2013 تم التحفظ على أصول مجموعة "كوكورفا" الإعلامية، التي تضم جريدتي "أكشام وجونيس" وقناة "سكاي تورك 360".
وأدت معاناة كثير من المؤسسات الصحفية من أزمات مالية، تتسبب في ضعف حضورها على الساحة إضافة إلى عجزها عن الوفاء بمستحقات العاملين فيها.
غياب قوانين تكفل الحق في الوصول إلى المعلومات: لا يزال العمل الصحفي والإعلامي في تركيا يعاني من غياب أطر قانونية تتيح وتسمح بالحصول على المعلومات ومن ثم تداولها، وهو الأمر الذي يزيد من صعوبة العمل الصحفي القائم على حقائق ومعلومات وليس اجتهادات شخصية.
ختاماً يمكن القول إن الصحافة في تركيا، تبدو مرشحة لمزيد من التراجع، والتكميم بفعل تقييد حرية الإعلام، واعتقال الصحفيين. ولذلك لم يكن غريباً توجه السلطة نحو بناء تحالفات إعلامية جديدة موالية لها، وهدم المنصات الصحفية الممانعة لتوجهاتها سواء عبر تشويه سمعة الصحفيين العاملين فيها في الذهنية التركية، أو استقطاب آخرين، ودمجهم في مجموعات مصالح.
كما يشير المشهد الصحفي التركي إلى تصاعد هيمنة ما يمكن أن يُطلق عليه تأميم حتى "الصحافة المؤدلجة" التابعة للدولة، ومعها ما تبقى من صحافة أحزاب الموالاة، وصحافة مجموعات المصالح التي ترتبط بالنظام، وهو ما يعني استمرار معضلة الصحافة في تركيا، وتراجع الدور المنوط بها.
aXA6IDMuMTQwLjE5OC4yMDEg
جزيرة ام اند امز