لماذا جمدت تركيا تسلم الدفعة الثانية من إس 400؟
تخشى تركيا التوجه العقابي للكونجرس خاصة أن تصويت مجلس النواب الأمريكي الأخير ليس هو الأول من نوعه
تمثل صفقة منظومة الدفاع الصاروخية الروسية كابوساً مزعجاً لتركيا، وظهر ذلك في حث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لنظيره التركي عشية لقائهما في واشنطن في 13 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري على ضرورة التخلص من منظومة "إس 400".
وفي 10 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، أكد مستشار الأمن القومي الأمريكي أنه على تركيا التخلص من منظومة الصواريخ الروسية، أو أنها ستكون عرضة لعقوبات قوية سيقرها الكونجرس بأغلبية ساحقة حال طرحها على التصويت.
وترى واشنطن أن منظومة الصواريخ الروسية تتعارض مع أنظمة التسليح الغربي ناهيك عن أن إقبال تركيا على شراء المنظومة الروسية سوف يفتح شهية دول أخرى في حلف الناتو على شراء تلك المنظومة مثل اليونان.
في هذا السياق العام، وفي سياق محاولة تخفيف التوتر مع واشنطن، أعلنت أنقرة أن تسليم الدفعة الثانية من منظومة الدفاع الروسية إس 400 قد يتأجل إلى ما بعد الموعد المحدد في 2020، بدعوى استمرار المحادثات حول تبادل التكنولوجيا والإنتاج المشترك.
كما لم تشغّل تركيا بطاريات صواريخ إس 400 التي تسلمتها حتى الآن وما زالت واشنطن تأمل في إقناع حليفتها "بالابتعاد" عن المنظومات الروسية.
محاولات للتهدئة
بذلت حكومة "العدالة والتنمية" في تركيا جهودا دبلوماسية وحملات إعلامية شاقة من أجل إقناع الجانب الأمريكي بمشروعية الصفقة، وأنها لا تشكل خطرا على تحالفات تركيا الأطلسية ولا مخاطر على أمن الحلف ولا على قوات الولايات المتحدة.
وفي هذه السياق اعتمدت تركيا بعض الآليات، في الصدارة منها تفعيل لغة الحوار لتهدئة مخاوف الولايات المتحدة من مخاطر منظومة الدفاع الصاروخية الروسية إس 400، حيث أكد عدد من المسؤولين الأتراك أن تلك الصفقة تهدف إلى توفير نظام دفاعي جوي وصاروخي جديد، بسبب تنامي الصراعات في الإقليم، وتعدد المخاطر الأمنية في منطقة الشرق الأوسط، والتي تحمل انعكاسات سلبية على الأمن القومي التركي.
مراهنة تركيا على الحوار لاحتواء الأزمة، ارتكزت على مساحات التفاهم بين أردوغان وترامب الذي عبر مرات عدة في السابق عن تفهمه "قرار" تركيا، وألقى باللوم على سلفه باراك أوباما لعدم بيع صواريخ "باتريوت" لأنقرة.
في المقابل سعت أنقرة إلى تبني خيارات متناقضة في محاولة للخروج بأكبر قدر من المكاسب الاستراتيجية.
وفي الوقت الذي أعلنت أنها لن تتراجع عن صفقة إس 400 مع موسكو، ذهبت سريعاً نحو فتح قنوات حوار مع واشنطن، وإعلان قبولها شراء صفقة "باتريوت".
وفي إطار محاولة تهدئة الغضب الأمريكي من صفقة إس 400 قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أواخر سبتمبر/أيلول 2019، إن "ملف شراء تركيا منظومة باتريوت الأمريكية لا يزال مطروحا على طاولة المباحثات".
على صعيد ذي صلة روجت تركيا لنماذج مشابهة مثل اليونان، وبلغاريا، وسلوفاكيا، تمتلك أنظمة تسليح روسية، رغم عضويتها مثل تركيا في الحلف الأطلسي الذي أظهر قلقاً كبيراً بخصوص صفقة إس 400.
كما تحرص أنقرة على التذكير بدول في حلف شمال الأطلنطي حصلت على منظومات "إس 300" دون التعرض لعقوبات.
تأجيل الصفقة
ثمة اعتبارات تدفع أنقرة لتعليق تسلم الدفعة الثانية من المنظومة الروسية، أولها تمرير مجلس النواب الأمريكي نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2019، وبغالبية كبيرة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري مشروعا يعترف بمذابح الأرمن شرق الأناضول في زمن الدولة العثمانية في الفترة ما بين 1915، 1917 إبان الحرب العالمية الأولى على أنها "إبادة جماعية".
كما طالب الكونجرس ترامب بفرض عقوبات على تركيا بسبب العملية العسكرية شرقي سوريا.
وتخشى تركيا التوجه العقابي للكونجرس خاصة أن تصويت مجلس النواب الأمريكي الأخير ليس هو الأول من نوعه، ففي 11 أكتوبر/تشرين الأول 2019 قدم عضوا المجلس "اليندسي جراهام وكريس فان هولن"، مشروع قانون لفرض عقوبات صارمة على تركيا بسبب عملية "نبع السلام"، وشرائها منظومة الدفاع الروسية إس 400.
وقبل انتهاء عطلة الكونجرس في أغسطس/آب 2019، حضت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب في تغريدة على موقع "تويتر"، الإدارة الأمريكية على فرض عقوبات على تركيا، قبل تسلمها الدفعة الثانية من منظومة الصواريخ إس 400.
ويعتبر الكونجرس أن أنقرة خرقت قانون مواجهة خصوم واشنطن" كاتسا"، وظهر ذلك في إتمام صفقة منظومة الدفاع الصاروخية الروسية إس 400، وتسلمها أجزاء منها في يوليو/تموز 2019.
في المقابل لم يعد ترامب كما كان معجباً بشخصية أردوغان، إذ وصفه بـ"الأحمق" عشية الغزو التركي لشمال سوريا في 9 أكتوبر/تشرين الأول 2019.
كذلك أنهت إدارة ترامب في مارس/آذار 2019، ردًّا على توقيع تركيا صفقة إس 400 مع موسكو امتيازات تجارية بقيمة 1,7 مليار دولار في إطار نظام "الأفضليات" التجاري، الذي يسمح بإعفاء تركيا من الرسوم الجمركية فيما يتعلق بنحو ألفي منتج من المنتجات الصناعية، والمنسوجات الواردة إلى الولايات المتحدة. كما ظهر ضعف الاستثمار في العلاقة الشخصية بين أردوغان وترامب، عندما سحب الأخير القوات الأمريكية من سوريا مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2019، وبدا من وجهة نظر تركية وكأنه يخلي الطريق للعملية العسكرية التركية، لكنه اتهم أردوغان "بذبح آلاف الناس" وكتب على تويتر قائلاً: "لاتكن متصلباً.. لا تكن أحمق"، كما فرض عقوبات على تركيا قبل أن يرفعها بموجب اتفاق لوقف القتال في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 وإجلاء المقاتلين الأكراد من الحدود.
خلف ما سبق، تخشى تركيا استمرار مواصلة الإدارة الأمريكية دعم وحدات حماية الشعب الكردية، لا سيما بعد استقبال مظلوم عبدي قائد عناصر "قوات سوريا الديمقراطية" في نوفمبر الجاري لمناقشة ترتيبات ما بعد تجميد عملية نبع السلام، وإعادة الانتشار الأمريكي قرب حقول النفط السوري شرقي سوريا.
وكان مجلس النواب الأمريكي قد طالب الخارجية الأمريكية في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2019 إصدار تأشيرة لقائد عناصر "قسد" حتى يتمكن من زيارة الولايات المتحدة لمناقشة الوضع في سوريا.
وبينما يتعامل الكونجرس مع قائد "قسد" كشخصية سياسية شرعية"، تعتبره أنقرة إرهابيا على صلة وثيقة بحزب العمال الكردستاني المحظور الذي يشنّ حملة تمرد منذ عقود في تركيا.
وتبدي واشنطن حرصاً على استمرار علاقتها الخاصة مع الأكراد، خاصة في ظل مواصلة موسكو التركيز على التحركات الأمريكية الأخيرة في منطقة شرق الفرات حول حقول النفط، إذ تعد موسكو ذلك "أمراً لا يمكن القبول به".
وتشن موسكو حملة شديدة على واشنطن منذ إعلان الأخيرة إعادة وحدات عسكرية إلى المنطقة لحماية النفط السوري، ومنع سيطرة "داعش" أو الروس عليه. كما تعتبر واشنطن التفاهم مع الأكراد لا يزال يحمل أولوية خاصة في ظل توجه الأمريكي نحو بناء قاعدتين عسكريتين جديدتين في محافظة دير الزور وشرق سوريا.
خلاصة القول، إن ثمة اعتبارات عديدة دفعت أنقرة إلى تعليق الدفعة الثانية من منظومة الدفاع الصاروخية الروسية s400، في الصدارة منها معارضة واشنطن للصفقة، إضافة إلى قلق تركي من دور روسي متعارض مع التوجهات التركية في سوريا، فبرغم تأييد ضمني روسي لعملية "نبع السلام" فإن موسكو سعت بعد العملية إلى رسم حدود الدور التركي في سوريا، وبما يتماهى مع الاستراتيجية الروسية.