لم يسبق أن انحدر مستوى الثقة بين أنقرة وواشنطن كما انحدر إليه في أزمة عفرين.
لم يسبق أن انحدر مستوى الثقة بين أنقرة وواشنطن كما انحدر إليه في أزمة عفرين، لدرجة تكذيب الطرفين الحوار الذي جرى في الاتصال الهاتفي بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والتركي رجب طيب أردوغان بعد أربعة أيام من انطلاق عملية عفرين العسكرية التركية في شمال سوريا.
حين أدركت أنقرة أنها لم تنجح في تغيير موقف البنتاغون بعد دخول جيشها عفرين بدأت بزيادة الضغط على واشنطن من خلال التهديد بتوسيع العملية إلى منبج، حيث تتواجد قوات أمريكية هناك، بل الزحف في شمال سوريا حتى الحدود العراقية إن لزم الأمر، حسب قول أردوغان
القصر الرئاسي التركي يصدر بيانا منفردا يسرد فيه ما طالب أردوغان به الرئيس الأمريكي من ضرورة وقف تسليح قوات الدفاع الكردية في شمال سوريا، فيما البيت الأبيض يصدر بيانا من جانبه يكشف عن توجيه ترامب عبارات قاسية لنظيره التركي -حسب البيان الأمريكي- يحذره فيها من مواجهة عسكرية بين جنود البلدين في منبج، ويطالبه بتضييق عملية عفرين واختصارها، ووقف حملات الدعاية ضد أمريكا في الإعلام التركي، لتعود أنقرة لتكذيب البيان الأمريكي وترد المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية لتكذب البيان التركي الأخير.
حوار هاتفي مثير للجدل دفع زعيم المعارضة التركي كمال كيليجدار أوغلو للمطالبة بكشف نص ذلك الحوار الهاتفي للعلن، ويضطر البلدان إلى اتصال هاتفي جديد بين مستشار أردوغان للشؤون الخارجية إبراهيم قالن ومسؤول الأمن القومي في البيت الأبيض هربرت ماك ماستر من أجل تهدئة الأجواء.
الرئيس أردوغان يتهم واشنطن بدعم منظمة إرهابية، وحدات الحماية الكردية الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، والاعتماد عليها في تأسيس وجود طويل الأمد للقوات الأمريكية في شمال سوريا، فيما البنتاغون يعتبر أن تركيا خذلته في بداية الحملة ضد داعش، حين غضت أنقرة الطرف عن تمدده على حدودها، ظنا منها أن داعش كفيل بوأد أي حلم كردي في شمال سوريا، فيما لا تزال علاقة أنقرة بجبهة النصرة -فرع من تنظيم القاعدة الإرهابي- محل تساؤلات من قبل واشنطن.
البنتاغون يتباهى بطرد داعش من الرقة والقضاء على وجوده في شمال سوريا دون خسارة جندي أمريكي واحد في تلك المعارك، ويقول إن الفضل يعود لجنود قوات سوريا الديمقراطية، وعمادها المسلحون الأكراد من قوات الحماية الكردية، ومن هنا يصر البنتاغون على أنه لا مجال للتخلي عن تلك القوات الكردية طالما أن الاستراتيجية الأمريكية تقضي ببقاء القوات الأمريكية في شمال شرق سوريا لمدة طويلة، وطالما أن ترامب لا يرغب في إرسال قوات أمريكية مقاتلة على الأرض إلى هناك.
راهنت أنقرة على إحداث شق وخلاف بين البنتاغون والرئيس الأمريكي حول موضوع التعاون مع قوات سوريا الديمقراطية، خصوصا بعد القضاء على داعش في شمال سوريا، حيث تنتهي -وفق المنظور التركي- حاجة واشنطن لدعم الأكراد في المرحلة المقبلة، هذا الرهان بدأ بعد الاتصال الهاتفي بين أردوغان وترامب في نهاية نوفمبر، والذي أبدى فيه ترامب تفهما للموقف التركي ووعد أردوغان بوقف تسليح تلك القوات بعد انتهاء العمليات ضد داعش، لكن البنتاغون أصر على مواصلة الدعم، بل خصص 300 مليون دولار لدعم الأكراد من موازنة 2018.
واعتقدت أنقرة أنها من خلال عملية عفرين ستضع ترامب أمام أمر واقع، وتجبره على الاختيار ما بين موقف البنتاغون وبين خسارة حليفه الأطلسي "تركيا" في المنطقة، وما قد يعنيه ذلك من وقوع القوات الأمريكية في شمال سوريا بين فكي كماشة، القوات الروسية والسورية في الجنوب، وتركيا "الغاضبة" في الشمال مع احتمال ذهاب أنقرة لإغلاق قاعدة إنجرلك العسكرية الأطلسية.
ويبدو أن ترامب -الذي أدرك هذا الأمر- لم يعجبه أن تعمل أنقرة على لي ذراعه بهذا الشكل، فظهر بموقف متشدد في مكالمته الأخيرة مع أردوغان. وحين أدركت أنقرة أنها لم تنجح في تغيير موقف البنتاغون بعد دخول جيشها عفرين، بدأت بزيادة الضغط على واشنطن من خلال التهديد بتوسيع العملية إلى منبج، حيث تتواجد قوات أمريكية هناك، بل الزحف في شمال سوريا حتى الحدود العراقية إن لزم الأمر، حسب قول أردوغان، في تهديد واضح للمخطط الأمريكي هناك، ورفضت أنقرة محاولات وزير الخارجية ريكس تيلرسون لتهدئة الخلاف، من خلال طرح حل وسط بإنشاء منطقة عازلة أو آمنة لتركيا في شمال عفرين بعمق 30 كيلومترا.
أمريكا قررت البقاء في سوريا من أجل التصدي للنفوذ الإيراني -كما تقول- في سوريا، ومن أجل الضغط على روسيا التي اعتقدت بأنها باتت تمسك بمفردها زمام الحل السياسي في سوريا، وتساومها سياسيا على الحل وشروطه.
في المقابل، دفعت موسكو للرد على هذا المخطط الأمريكي، بالضغط على الوجود الأمريكي من خلال تسهيل دخول الجيش التركي إلى عفرين وربما منبج لاحقا، دون أن تحصل في المقابل على تنازلات تركية فيما يتعلق بوقف دعم الفصائل المقاتلة في إدلب حيث يتقدم الجيش السوري.
وبين موسكو وواشنطن تسعى أنقرة لحجز مكان لها على رقعة الأرض السورية من خلال تشكيل جيب جغرافي يمتد من جرابلس إلى عفرين، وبعمق يمتد إلى شمال إدلب وحلب، وكنتيجة غير مباشرة فإن الموقف التركي يؤثر سلبا في خطط أمريكا الاستراتيجية للضغط على روسيا وإيران في سوريا، علما بأن في هذا الضغط مصلحة تركية. فالتواجد الأمريكي في سوريا سيقوي الموقف الأمريكي في مواجهة موسكو، ويضع مستقبل الرئيس السوري بشار الأسد ورقة للتفاوض بين القوتين العظميين، وكذلك سيزعج طهران التي تريد أن تعزز ممرها البري الممتد من طهران إلى لبنان عبر العراق وسوريا، وكلا الأمرين فيه مصلحة لتركيا، لكن هذه المصلحة التركية تبدو مؤجلة مقارنة بما تعتبره تركيا تهديدا كرديا قائما على حدودها.
أمريكا سعت منذ عقدين من الزمن لمساعدة حليفتها تركيا في حل أزمتها الكردية، إذ سلمتها زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان عام 1999، أملا في أن تسرع أنقرة إلى حل سياسي يغلق هذا الملف، لكن أنقرة فوتت تلك الفرصة حينها، كما سعت واشنطن لدعم مفاوضات السلام بين أنقرة وحزب العمال الكردستاني عام 2013، لكن تلك المفاوضات انهارت عام 2015، وسط تبادل للاتهامات بين أنقرة التي اتهمت الحزب بالخروج عن الاتفاق وتسليح قواته مجددا في تركيا، وبين الحزب الذي اتهم الرئيس أردوغان بالتهرب من الاتفاق عندما وجد أن شعبية حزبه -حزب العدالة والتنمية – تتراجع بسببه في انتخابات 2015.
ويقول البنتاغون إن موقف أنقرة السابق من داعش وجبهة النصرة لم يترك لواشنطن خيارا سوى الاعتماد على القوات الكردية في سوريا لمقاتلة داعش، لذا فإنه من وجهة النظر الأمريكية فإن أنقرة سبقت إلى الاستفادة من "جماعات إرهابية" لتحقيق مصالحها في سوريا قبل أن تلجأ واشنطن إلى الأسلوب نفسه.
سيكون صعبا على الرئيس دونالد ترامب أن يدير ظهره بالكامل لأنقرة ويدفع بها إلى الحضن الإيراني الروسي في سوريا، وعليه فإنه قد يسحب قواته من منبج للتركيز على مشروعه شرق الفرات، وقد يقدم وعودا بسحب الآليات الثقيلة من الأكراد والاكتفاء بتسليح خفيف لهم كحل وسط، لكن ذلك لن يعني بأي حال تسهيل العملية العسكرية التركية في عفرين التي دخلت أسبوعها الثاني دون تحقيق تقدم حقيقي على الأرض، فالمحللون العسكريون المحايدون في تركيا يقولون إن أمام الرئيس التركي خياران أحلاهما مر، الأول يركز على خفض الخسائر البشرية بين المدنيين والمقاتلين في الجيش السوري الحر والجيش التركي، من خلال تقدم بطيء في عفرين قد يمد العملية لنحو ستة أشهر، أو الاستعجال في التقدم على حساب خسائر كبيرة بين المدنيين في عفرين وفي صفوف الجيش السوري الحر والجيش التركي، فيما تقف موسكو متفرجة على ما يحدث من شق الصف بين الحليفين الأطلسيين تركيا وأمريكا، وتطلق العنان لمحلليها العسكريين الذين يشمتون في تركيا من خلال تصريحاتهم المتكررة بأن عملية عفرين لا تسير على ما يرام.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة