جبران خليل جبران "فيلسوف الكلمة والريشة"
في ذكرى رحيله الـ87، يمثل جبران حالة إبداعية فريدة، إذ أمسك بتلابيب الذائقة الجمالية في شتى صورها، فكان شاعرا وأديبا ورساما وفيلسوفا
لا يزال آلاف الزوار يصعدون جبل مارسركيس في أحضان وادي القديسين بلبنان، حيث يرقد جبران خليل جبران الذي مرت ذكرى رحيله الـ87 لرحيله في هدوء.
رحل جبران عن عالمنا في 10 إبريل عام 1931، تاركا عددا من الأعمال الإبداعية العربية والإنجليزية إلى جانب مئات اللوحات التشكيلية وآلاف الرسوم التي حرص أن يطعم بها مؤلفاته.
يعتبر جبران حالة إبداعية فريدة، إذ أمسك بتلابيب الذائقة الجمالية في شتى صورها، فلم يكن شاعرا وأديبا، بل رساما محترفا وفيلسوفا يعتد بأقواله في الحياة والحب والوجود، وبرع في رسم الكلمات في قصائده النثرية، ورسمت ريشته أوجاع الإنسانية وآلام الغربة وأتراحها.
كان جبران أحد رواد أدب المهجر وأسس بأسلوب حداثي اتجاهاً أدبياً نقدياً، فلم يكتب القصيدة بالشكل التقليدي المحافظ الذي كان معتاداً في بدايات القرن العشرين، لكنه تمرد على البحر الواحد والقافية الواحدة متأثرا بالثقافة والأدب الغربي، مغلفا أدبه ببواعث التأمل والنزعة الصوفية والفكر الفلسفي الذي استقاه من قراءاته.
ولد جبران في 6 يناير 1883 في قرية منعزلة في بشَّري التابعة لمتصرفية جبل لبنان، لعائلة مسيحية مارونية. ويعتبر أبرز شعراء العرب في المهجر، حيث عاش معظم حياته بعيدا عن لبنان. هاجر إلى أمريكا عام 1895وهو بعمر الـ12، حيث بدأ تعليمه فيها، وبعد فترة قصيرة لاحظ موهبته رائد الرسم والتصوير الفوتوغرافي فريد هولاند داي Fred Holland Day، وبدأ جبران بالتطور تحت إشرافه، لكن بعد الانتباه إلى أنه بدأ يتأثر بالثقافة الغربية بشكل كبير.
أرسلته أمه مرة أخرى إلى بيروت ليتعلم تراثه، تابع الرسم ليقيم أول معرض له وهو بعمر 21 عاما، بعدها بدأ بالكتابة حيث كتب أولًا بالعربية وبعدها بالإنكليزية، دمجت كتاباته بين ثقافتيه الشرقية والغربية وجلب ذلك له شهرةً كبيرة ودائمة.
ورسم أكثر من 700 صورة، وتباع لوحاته في المزادات العالمية بأرقام قياسية، حيث بيعت آخر لوحة له بعنوان "السيدة ألكساندر مورتو" بـ 182.500 ألف جنيه إسترليني.
عاش مع أقاربه بجنوب بوسطن- ولاية ماساتشوستس، وتنقل ما بين لبنان وبوسطن حيث عاد لتعلم العربية والتراث الشرقي. في 3 مايو 1904 أقام معرضه الأول في استوديو معلمه "داي" في بوسطن، وهنا التقى ماري إليزابيث هاسكيل Mary Elizabeth Haskell وهي المعروفة بمساعدتها لعدد من الناس الموهوبين، كانت تملك مدرسة ميس هاسكيل للبنات، وساعدته ماليًا واستخدمت نفوذها ليطور مهنته، وبالرغم من أنها كانت تكبره بعشرة أعوام إلا أنهما بقيا صديقين حتى وفاته.
في شتاء عام 1904 كتب أول مقالاته بالعربية لصالح صحيفة أخبار عربية (صحيفة المهاجر) حيث كان يحصل على دولارين مقابل كل مقالة، وحمل أول مقالاته عنوان رؤيا.
في عام 1905 نشر جبران أول أعماله "نفثة في فن الموسيقى"، وعام 1906 نشر عمله الثاني "عرائس المروج" حيث احتوى هذا الكتاب على 3 قصص قصيرة تمت ترجمتها فيما بعد إلى الإنكليزية تحت عدة عناوين، وفي نفس العام بدأ عمودًا خاصًّا به في الصحيفة التي كان يكتب لها تحت عنوان "دمعة وابتسامة".
نشر كتابه الثالث "الأرواح المتمردة" عام 1908 والذي تناول مجموعة من القضايا الاجتماعية مثل تحرر المرأة والتحرر من النظام الإقطاعي الذي كان سائداً في لبنان، وبسبب استياء رجال الدين من محتويات الكتاب تم تهديده بأنه سوف يطرد من الكنيسة كما انتقدت الحكومة الكتاب ومحتوياته.
في نفس العام تلقى جبران تمويلاً من هاسكيل ليسافر إلى باريس ويزيد مهاراته في الرسم الزيتي وأقلام الباستيل، وفي تلك الفترة كان متأثرًا جدًا بالرمزية، وتم قبول لوحته "خريف" من قبل الجمعية الوطنية الفرنسية للفنون الجميلة لتشارك في معرضها.
وفي تلك الفترة أثناء وجوده بباريس رسم سلسلة من الصور الشخصية "بورتريه" لعدد من الممثلين العظماء أمثال: أغسطس رودين، كما التقى مجموعة من المشاهير، على الرغم من كونه لم ينه فصوله الدراسية قام بجولة في إنجلترا قبل عودته إلى الولايات المتحدة في أواخر عام 1910.
انتقل جبران إلى نيويورك عام 1911 حيث عاش هناك ما تبقى من حياته القصيرة، بعدها بدأ بالعمل على كتابه الجديد "الأجنحة المتكسرة" والذي يتناول تحرر المرأة، ومن المعتقد أن بطل الرواية هو الكاتب نفسه.
في عام 1911 أسس جبران "الرابطة القلمية" وهي جمعية كانت تعنى بتشجيع الكتاب والآداب العربية، لم تساعد هذه الجمعية الكتاب العرب فقط وإنما ساعدت جبران نفسه بشكل كبير من خلال صلاتها وجماهيريتها. وضمت جبران، ونسيب عريضة، ووليم كاتسفليس، ورشيد أيوب، وعبدالمسيح حداد، وندرة حداد، وميخائيل نعيمة، وإيليا أبو ماضي.
بعد إصدار كتابه "الأجنحة المتكسرة" بدأت شهرة جبران بالانتشار، عندها أصبح واحداً من أشهر أدباء وشعراء المهجر كما بدأ يدعى بالإصلاحي. وفي عام 1913 أسس معرضا كبيرا له وقدّم في نفس العام واحدة من أهم أعماله الفنية وهي "ذا هيرميتيج" وفي تلك الفترة تعززت مكانته ككاتب أولًا ورسام ثانيًا.
بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى وجّه طلبه إلى المسلمين والمسيحيين اللبنانيين بأن يوحدوا جهودهم في محاربة العثمانيين، وكان حزينًا كونه لن يتمكن من المشاركة في هذا النضال، وبعد أن أصبح الجوع يتسبب بوفاة أكثر من 100 ألف إنسان في بيروت وجبل لبنان بدأ جبران بجمع المال لتأمين المساعدة للحشود الجائعة، في الوقت نفسه كانت شعبيته تزداد في نيويورك.
في عام 1916 أصبح أول مهاجر ينضم إلى البورد الأدبي الخاص بمجلة ذا سيفن أرتس The Seven Arts Magazine، كانت أول أعماله الأدبية باللغة الإنجليزية تحت عنوان "ماد مان"-المجنون- حيث مثلت قصة رمزية وشعرية ونشرت عام 1918.
ومن أشهر أعماله العربية، قصيدة "المواكب" عام 1919 و"العواصف" في 1920 بالإضافة إلى كتاب "البدائع والطرائف" الذي صدر عام 1923 وفي نفس العام أصدر كتابه "النبي" وعند إصدار هذا الكتاب كان جبران وصل إلى قمة مهنته ككاتب وأصبح الكتاب والأدباء في زمانه، فهذا الكتاب يختصر بالفعل فلسفة جبران ونظرته إلى الكون والحياة. وقد ترجم إلى لغات العالم الحية كلها، وكانت آخرها اللغة الصينية.
ومن كتابه "البدائع والطرائف" في مقال بعنوان "حفنة من رمال الشاطئ" كتب: "كآبة الحب تترنم، وكآبة المعرفة تتكلم، وكآبة الرغائب تهمس، وكآبة الفقر تندب، ولكن هناك كآبة أعمق من الحب وأنبل من المعرفة، وأقوى من الرغائب، وأمر من الفقر، غير أنها خرساء لا صوت لها، أما عيناها فمشعشعتان كالنجوم".
استمر جبران في كتابة ونشر كل من "رمل وزبد" 1926 و"مملكة الخيال" و"أقوال جبران" 1927، وفي نفس الوقت كان يعمل على كتابه "يسوع ابن الإنسان" حيث ضمنها كلماته وآثاره التي سجلها من عاشوا في زمنه ونشر هذا العمل عام 1928، بعدها نشر كتاباً واحداً وهو "آلهة الأرض" عام 1931 أثناء حياته، والباقي تم نشره بعد وفاته.
ومن أروع الكتب التي تعكس جوانب عميقة في شخصية جبران هي كتاب "الشعلة الزرقاء" هو كتاب لجبران خليل جبران، يضم رسائل حبّه للكاتبة ميّ زيادة، وعددها 37 رسالة.
وفاة جبران خليل جبران
في 10 أبريل 1931 وهو بعمر الـ 48 توفي بسبب التليف الكبدي المزمن والسل في نيويورك. وقال عنه الروائي الفرنسي دانيال روندو: "إنه المجهول الأشهر فوق هذه الأرض. اسم بلا وجه، كاتب دونما أسطورة احتفظ في موته بنضارة المبتدئ. هو عربي كتب بالإنجليزية ولبناني من الجبل، مستكشفاً طريقه في المنفى، عثر على الحرية، واكتشف حبه الكبير لوطنه الأم. وهو قارئ للإنجيل لكنه يتكلم مثل متصوف أو مسيحي يعتز بمجد الإسلام، وعاشق لنساء ناضجات يبحث في مرآة أعماله عن صفاء روحه».
أوصى جبران أن تكتب هذه الكلمة على قبره بعد وفاته: "أنا حي مثلك، وأنا واقف الآن إلى جانبك؛ فأغمض عينيك والتفت؛ تراني أمامك".
أماكن تحمل اسم جبران
لا تزال ذكرى جبران مخلدة بأعماله التي يعاد طبعها حتى الآن، ومؤخرا أعادت الدار المصرية اللبنانية طباعة كتاب" البدائع والطرائف"، وكتاب "النبي"، بينما تحمل العديد من الأماكن اسمه ومنها: متحف جبران في بشري- لبنان، وحديقة جبران خليل جبران في بيروت، و حديقة خليل جبران التذكارية في العاصمة واشنطن. وهناك نصب تذكاري لجبران في كوبلي سكوير في بوسطن - ماساتشوستس.
aXA6IDMuMTI4LjMxLjc2IA== جزيرة ام اند امز