مهمة إزالة القلق بين المسلمين والدنيا تحتاج لفقهاء شجعان، لا يخافون من تغيير التصورات القائمة، ولا من إعادة الاعتبار للمباح.
القلق الذي يعيشه البعض من الأنشطة الدنيوية في المجال العام يستحق البحث المطول من المختصين، وبخاصة من المشتغلين على الفقه والأحكام. حالة التوجس من الدنيا وتنشيط الخيارات المدنية تم تأصيلها في مخيال المسلمين على مدى قرون، وكأن الدين يأتي بشكلٍ مناقض للدنيا أو معادٍ لها.. هذا الوهم جعل الأصل بأي نشاطٍ دنيوي الشك والتحريم. والفقه بأدواته وأصوله يضيء ويزدهر حين يكون ذهن الباحث والفقيه قوياً شجاعاً مستنيراً، غير هيّابٍ ولا وجل، ذلك أن الشريعة لم تأتِ مؤصلةً للعزائم، وإنما محملة بالرخص أيضاً، ولكن من يستمع إلى كثير من الإنتاج الفقهي ويقرأ سيل الفتاوى، يعلم أن التوق إلى التحريم يجعل ضمير المسلم والمفتي أكثر طمأنينة، وهذا الخلل يعادي أصول الشريعة ومقاصدها الكبرى، فالأصل بالدنيا أنها منحة من الله، والمباحات والأذواق المتاحة من النعم التي أفاء الله بها على عباده، ورفضها فيه عدوان على الشريعة، واستنقاص من الفقه، واحتقار لقوة الدين.
حل هذه الإِشكالية لن يتم بسهولة، ويحتاج إلى مؤسسات دينية فاعلة، يمكنها الإسهام بلثم الخلل الفظيع، فروح التوجس هذه نابعة من جهل متأصل بالإسلام ومقاصده ومعانيه وكلياته الكبرى.
لعل التحالف الحيوي بين المؤسسات الدينية في الإمارات والسعودية ومصر، وزيارة شيخ الأزهر للسعودية، ولقاءه مع المفتي العام ووزير الشؤون الإسلامية، تشكل نواة التعاون المأمول لإصلاح الخلل التاريخي في العلاقة بين الفرد ودنياه، وبين الفقه والمشكلات الدنيوية
وأحسب أن شخصيتين يمكنهما القيام بغربلة كبرى لتنظيف الفقه من الأدران الأيديولوجية: الشيخ عبدالله بن بية، المتمكن من الشريعة وأصول الفقه، والمحقق بالأحكام، والمهموم بتجديد علاقة الشريعة والمسلمين بالدنيا وبالآخرة أيضاً. ومن تتبع خطابه المستنير يعلم أن الفقه بكل أحواله ومدوناته يكبر حين يشتغل عليه عقل كبير، وأنشطته التي يقوم بها للتأسيس للحكمة والسلم تستحق الدرس والتأمل، وذلك انطلاقاً من رغبة عارمة لدى الإمارات أن تنتصر لقيم التسامح والسلام، بدلاً من صيغ القتل والوسواس والموت. وبالتوازي يأتي خطاب الشيخ محمد العيسى، القائم بعمل جبار لرسم مسارٍ إنساني للعلاقات بين أتباع الأديان، وهزيمة الآراء الحادة المعتبرة وجه الآخر ليس إلا طيف شيطانٍ لا بد من مهاجمته واستئصاله، والخطاب الذي يتبنّاه مؤصل فقهياً ومحكم شرعياً، الفرق فقط بطريقة إيجاد علاقة وسيطة بين الدين والدنيا، وهذا ما يحتاجه المسلمون اليوم.
إن أكبر عدوانٍ يمارسه البعض على الشريعة أن يسلب الفرد في مدينته حق "التقلب بالعيش"، وهذا ما نافح عنه كبار الفقهاء، مثل القرافي والجويني والشاطبي، ولذلك يورد عبدالمجيد الصغير، من كبار الدارسين لمقاصد الشاطبي، تحليلاً مهماً: "إذ الشاطبي سيتخذ مفهوم المباح مناسبة للتأكيد على ضرورة التكيف، وحقّ التقلب في العيش -بتعبير الجويني- ما يجعل منه مفهوماً صالحاً أكثر من بقية الأحكام التكليفية، للوقوف على بنية الخطاب الشرعي وضوابط أوامره وأهدافها العامة؛ خصوصاً إذا اعتبرنا أن الأصل في الأشياء الإباحة؛ حيث يمثل الوقوف على هذا الأصل في ضوء المقاصد الشرعية ضبطاً لسائر الأحكام الأخرى الطارئة. فليس غريباً أن يستهل الشاطبي مراجعته النقدية لإشكالية الأمر والطاعة، بتفصيله القزل في مفهوم المباح، مفضلاً البداية هكذا بنقد موقف متشدد من الأحكام الشرعية، عرف انتشاراً خاصاً بين الأوساط الصوفية، وتسرّب كرأي شاذ إلى علم الأصول يُلحق المباح بمرتبة المكروه والحرام، ويجعله من ثم مطلوب الاجتناب! نازعاً عنه طابع التخيير المتميز به في الخطاب الشرعي". (الفكر الأصولي: ص 534).
وعليه، فإن المشكلة الآن نظرية محضة، تحتاج لتكاتف الجهود بين المؤسسات الدينية، ولعل التحالف الحيوي بين المؤسسات الدينية في الإمارات والسعودية ومصر، وزيارة شيخ الأزهر للسعودية، ولقاءه مع المفتي العام ووزير الشؤون الإسلامية، تشكل نواة التعاون المأمول لإصلاح الخلل التاريخي في العلاقة بين الفرد ودنياه، وبين الفقه والمشكلات الدنيوية، وهي مشكلات مخترعة وذات طابع تاريخي، يمكن تجاوزها بالإلحاح النظري، والتعديل والتبويب على الفقه وآلية صناعة الفتوى.
مهمة إزالة القلق بين المسلمين والدنيا تحتاج لفقهاء شجعان، لا يخافون من تغيير التصورات القائمة، ولا من إعادة الاعتبار للمباح، بوصفه أساس الخيار الفردي داخل المجال العام.
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة